لماذا تفشل مصر.. وتنجح تونس؟

In مقالات رأي by CIHRS

  • بهى الدين حسن
 

يختلف من قابلتهم فى تونس فى أمور كثيرة، ولكنهم يتفقون جميعا ــ حكومة ومعارضة ومجتمعا مدنيا ــ فى النظر للمستقبل بتفاؤل وثقة، وفى أن بلدهم على الطريق الصحيح. كانت هذه الإجابة المشتركة
عن أسئلتى التى وجهتها إلى من اجتمعت معهم، بدءا من وزيرى الداخلية والإصلاح الأمنى، ورئيسى الهيئة المستقلة للانتخابات، والهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام، وعدد من النشطاء الحقوقيين والسياسيين، وانتهاء بالقادة النقابيين لانتفاضة الحوض المنجمى فى بلدة «الرديف»، 500 كم جنوبى العاصمة.

كنت قد تركت القاهرة وهى ترزح تحت تلال من الشعور بأن مصر قد خرجت عن الطريق الصحيح، وعدت إليها لأجدها تختنق بشعور مكثف بالتشاؤم ــ خاصة بعد مذبحة «ماسبيرو» التى ذهب ضحيتها عشرات الأقباط ــ وأن مصر تسير عكس الاتجاه السليم، بل ربما على حافة الانزلاق إلى حرب أهلية. وهو أمر لا يبدو مفاجئا للمسئولين العسكريين عن حكم البلاد، حيث قال أحد كبارهم فى لقاء خاص شاركت فيه، إنه يخشى على مصر من خطر «الصوملة»!

من المثير للدهشة أن المجلس العسكرى الذى يقود البلاد إلى هذه الهاوية، يبدو مهموما أكثر بتأمين المصالح الضيقة المتوارثة منذ يوليو 52، وبقنص الإعلاميين وشباب الثورة وإحالتهم للنيابة العسكرية الواحد تلو الآخر، كما يتعرض بعضهم للاختطاف لعدة أيام والتحقيق معهم معصوبى الأعين فى أماكن مجهولة، على النحو الذى كان سائدا قبل «ثورة» 25 يناير. فى نفس الوقت الذى صارت فيه عذرية النساء المصريات على رأس جدول الأعمال، حيث تقوم الشرطة العسكرية باختبار عذرية النساء اللائى تقبض عليهن، فى سابقة هى الأولى فى تاريخ مصر. وقد أعطى المجلس العسكرى أخيرا الضوء الأخضر للتحقيق مع المدافعين عن حقوق الإنسان بتهمة الإضرار بالأمن القومى! والخيانة العظمى! وهى تهمة يختص بها الدستور والقانون رئيس الجمهورية والوزراء، لا أحد غيرهم. ولكن مبارك لا يحاكم بهذه التهمة، ولا عن الجرائم التى ارتكبها على مدى ثلاثة عقود، بل يحاكم على ما قد يكون ارتكبه فى يوم واحد فقط: «هل أمر بإطلاق النار يوم 28 يناير على المتظاهرين»؟ فإذا تعذر الحصول على شاهد يشهد بذلك، صار بريئا، وربما يحق له لاحقا ملاحقة كل من أساء إلى سمعته!

لا يعنى هذا بالطبع أن الأوضاع فى تونس مثالية، أو أن طريقها للمستقبل لا تعترضه عقبات كبيرة، ولكنها على الطريق، وبالأحرى لا تسير فى اتجاه «الصوملة».

فى شرفة فندقى، سألت الحقوقى التونسى رضا رداوى كيف تفسر هذا التقدم؟ أجاب على الفور دون تردد: لقد كنا محظوظين بأن «جيشنا ضعيف سياسيا»! وافقه على الفور حقوقى آخر، هو عياشى همامى. لم تكن المناقشة قد تطرقت إلى مصر بعد، حيث عرفت المؤسسة العسكرية طريقها للسياسة منذ ستة عقود، لم تحكم مصر خلالها إلا برؤساء عسكريين. لذا فإن المجلس العسكرى المتمرس الذى تسلم السلطة بعد عزل الرئيس حسنى مبارك، تفوق على كل اللاعبين فى ممارسة المناورات السياسية، ونجح فى حماية النظام القديم من الثورة ــ مقابل التضحية ببعض الرءوس ــ وفى تفتيت جبهة «الخصوم» من قوى الثورة، واستنزاف طاقاتها، وإفقاد الثورة قوة دفعها، وفى إحياء الصيغة القديمة «إما نحن أو الإسلاميين»، بينما البلاد تنهار يوما بعد يوم.

فى تونس لم يطرح الجيش على نفسه تولى حكم البلاد، رغم أنه لعب دورا حاسما فى نجاح الثورة، بعد أن رفض إطلاق النار على المتظاهرين، ثم قام بشل حركة قيادات الشرطة التى حاولت مواصلة القمع. وبعد فرار الرئيس زين العابدين بن على، تسلم سلطة البلاد رئيس وحكومة مدنيين، وراهن الجيش على حكمة الشعب التونسى وقواه المدنية، ونضجها التدريجى على نار الزمن والتحديات. واكتفى بمراقبة تطور الأمور من مسافة كافية تمكنه من التدخل، فقط إذا ما لاح خطر انهيار الدولة.

غير أن تونس تبدو محظوظة أيضا بإسلامييها الأحدث فى ممارسة السياسة من نظرائهم فى مصر. فهم يتبنون برنامجا سياسيا، وليس دينيا، لا يطالب بتطبيق الشريعة، أو حتى النص عليها فى الدستور، ولا بتغيير الطبيعة العلمانية للدولة، أو تعديل قانون الأحوال الشخصية الذى لا يسمح بتعدد الزوجات، كما لا تطرح حركة النهضة على نفسها مهام المراقبة البوليسية لأخلاق التوانسة وحياتهم الخاصة، على النحو الذى يبشرنا به قيادات الإخوان المسلمين والسلفيين فى مصر. إن حركة النهضة لو كانت تمارس نشاطها فى مصر، لجرى وصمها من بعض قيادات الإخوان المسلمين والسلفيين بالكفر وإنكار «المعلوم من الدين بالضرورة»، رغم أنها ولدت من رحم حركة الإخوان المسلمين!

لقد ساهم هذا التوجه من حركة النهضة فى جعل الصراع السياسى أقل استقطابية منه فى مصر، وحد من صعوبات التوافق على صورة تونس المستقبل، حتى لو صارت حركة «النهضة الإسلامية» هى الفائز الأكبر فى الانتخابات.

الجدية والذكاء السياسى للنخبة التونسية ــ مقارنة بالمصرية ــ عامل لا يقل أهمية. فرغم أن الثورة التونسية ــ مثل المصرية ــ كانت بلا قيادة، فإن النخبة التونسية أدركت مبكرا جدا، أهمية عدم ترك فراغ سياسى تملأه قوى الثورة المضادة أو الجيش أو الإسلاميون. فسارعت إلى ملء هذا الفراغ مبكرا، من خلال تأسيس هيكلية عبقرية تجمع بين أبرز مكونات المجتمع السياسى والمدنى، تضم تحت مظلتها ممثلين عن الأحزاب السياسية الرئيسية ــ بما فى ذلك الإسلاميون ــ والنقابات ومنظمات حقوق الإنسان، وعددا وافرا من الشخصيات العامة المستقلة ذات المكانة. وحرصت على ألا تتمتع الأحزاب السياسية بموقع قيادى أو تحكمى فى «الهيئة المستقلة لتحقيق أهداف الثورة»، حتى لا تدمر خلافات الأحزاب وصراعاتها هذه المبادرة التاريخية.

لقد وضعت النخبة التونسية مسألة السلطة على رأس جدول أعمالها، ولم تستهلك طاقاتها والوقت الثمين فى الإلحاح على عزل رئيس الجمهورية المؤقت الذى خلف زين العابدين بن على، رغم أنه من النظام السابق، أو فى البحث عن الثأر مع الماضى، بل ركزت على وضع دستور وتطوير مؤسسات وتشريعات المستقبل، وذلك وفقا للترتيب المنطقى للأمور بالنسبة لثورة، فهذه الركائز هى التى ستتولى تصفية الحساب فعليا مع الماضى وركائزه. فى المقابل بددت نظيرتها المصرية الوقت الثمين وطاقاتها فى مظاهرات «العويل» على دماء الشهداء والإلحاح على الثأر الفورى لهم، واستجداء المشاركة فى السلطة من المجلس العسكرى. لقد تكلمت النخبة المصرية كثيرا، ولكن الكلام والمظاهرات ــ حتى لو كانت بالملايين ــ لا يخلق حقائق جديدة على الأرض، وبالتالى لم تفلح فى تغيير علاقات القوى، ولا فى إعادة الاعتبار للشهداء، ولا فى تحقيق الأهداف التى ضحوا من أجلها بحياتهم. بل تشير ترتيبات الفترة الانتقالية من تشريعات ومؤسسات وانتخابات، إلا أنها تسير فى اتجاه ترسيخ علاقات القوى السائدة قبل 25 يناير، بل قد ينتهى الأمر بمحاكمة الثوار من 6 أبريل وغيرها بتهم العمالة والتمويل الأجنبى، على النحو الذى سبق أن بشر به أحد أبرز أعضاء المجلس العسكرى الحاكم. إن الماضى هو الذى يعد «للثأر» من الثورة، بل ويعد العدة لمحاكمة من قاموا بها، ومن حرثوا الأرض من أجلها، وهو يتقدم كل يوم خطوة للأمام، ولا عزاء للشهداء.

فى تونس، لم تنتظر الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة اعتراف أحد بشرعيتها ــ مثلما حدث مع مقترح إنشاء مجلس مدنى رئاسى مشترك فى مصر، الذى تم وأده فى مهده ــ بل كافحت لانتزاع الاعتراف بشرعيتها السياسية من خلال الممارسة المسئولة أمام المجتمع، حتى انتزعت شرعيتها القانونية، وصارت المنصة الرسمية لاقتراح كل تشريعات الفترة الانتقالية، بما فى ذلك قيامها بتشكيل الهيئات المدنية المستقلة المسئولة عن إدارة الانتخابات وإصلاح الإعلام، حتى أن الجريدة الرسمية للدولة التونسية ــ التى تنشر نص المراسيم والقوانين الجديدة ــ تشير فى مقدمة كل تشريع جديد تنشره، إلى أنه جاء بناء على اقتراح من هذه الهيئة، أو أن الهيئة أعدت مسودته.

هذه العوامل وغيرها ساعدت تونس على حفر طريق جاذب للتوافق السياسى والمجتمعى، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للثورة، ومن ثم التقدم التدريجى، حتى لو كان بطيئا، وأن يؤدى كل نجاح صغير إلى نجاح أكبر. بعكس مصر، التى تتقلص فيها القاعدة الاجتماعية للثورة يوما بعد يوم، وصارت فيها الفترة الانتقالية، انتقالا من فشل إلى فشل أكبر، الأمر الذى ينذر بكوارث أكبر وأكبر.

عندما يؤرخ التاريخ لثورة 25 يناير، فإن التاريخ سيذكرها بوصفها الثورة التى اهتمت بتنظيف «ميدان التحرير»، وأهملت كنس النظام القديم، وفى كلتا الحالتين، كانت محل تقدير المجلس العسكرى.

Share this Post