بعد نحو ستة أشهر فقط من اندلاع العنف الطائفي بالإسكندرية على خلفيات ما تناقلته بعض الصحف حول “سي. دي” لمسرحية تم عرضها بإحدى الكنائس قبل سنتين وتضمنت مساسا بالإسلام أو إساءات لرسوله، عادت الإسكندرية مجددا لتكون مسرحا لأحداث عنف جديدة وصدامات بين المسلمين والأقباط خلال تظاهرات رفعت فيها المصاحف في مواجهة الصلبان، ورفع فيها المسلمون شعارات من نوع “فداك يا رسول الله”، بينما رفع الأقباط لافتات لا تخلو من دلالة على الشعور بالاضطهاد من قبيل “لن نغادر” وقد تفجرت هذه الأحداث في أعقاب ما شهدته الإسكندرية من اعتداء آثم على ثلاث كنائس في 20 أبريل الماضي وقبيل احتفالات عيد القيامة المجيد، أودى بحياة أحد المصلين الأقباط وإصابة عدد آخر من المتواجدين داخل هذه الكنائس أو المتجمعين أمامها.
الاعتداء في حد ذاته والذي سارعت أجهزة الأمن ومحافظ الإسكندرية من قبل إجراء أي تحقيقات بشأنه للزعم بأنه عمل فردي قام به كالمعتاد مختل عقليا أظهر قصورا أمنيا فادحا في تأمين دور العبادة وحماية أرواح المواطنين وأعاد للذاكرة القبطية المشحونة حوادث عديدة بدت فيها الدولة عاجزة عن القيام بمسئولياتها في حماية المواطنين الأقباط وتركوا خلالها ممتلكاتهم ودور عباداتهم هدفا سهل المنال لرصاصات أو سكاكين وسيوف الجماعات المتطرفة أو المتعصبين دينيا، وليس بعيدا عن الذاكرة في هذا السياق مذبحة ديروط، ومذبحة أبو قرقاص، ومذبحة دير المحرق ومذبحة الكشح الثانية بصعيد مصر، وأحداث العنف التي شهدتها عزبة الأقباط بقرية دميانة بمحافظة الشرقية في التسعينيات.
ومن قبل أحداث الإسكندرية الأخيرة كانت مصر مسرحا للعديد من أحداث العنف الطائفي ربما كان من أبرزها الأحداث التي شهدتها قرية كفر سلامة في يناير الماضي والتي شهدت قيام بعض أبناء القرية من المسلمين بإحراق منازل 20 أسرة قبطية في أعقاب مشاجرة عادية بين عائلة قبطية وأخرى مسلمة انتهت بمصرع مواطن مسلم، فضلا عن أحداث قرية العديسات التي قام فيها متجمهرون من المسلمين بمحاولة إحراق كنيسة بالقرية على زعم أنه قد أعيد بنائها من دون الحصول على ترخيص وهو ما أفضى إلى مصرع مواطن قبطي على الأقل.
وتكشف أحداث الإسكندرية ذاتها على الأقل عن تقاعس –إن لم يكن تواطؤ- أجهزة الأمن في التصدي للاعتداءات التي طالت ممتلكات وسيارات ومحال عدد من الأقباط، فضلا عن كنيستهم بمنطقة العصافرة.
لقد بات واضحا أن الاحتقان الديني والطائفي قد وصل إلى مرحلة عالية من الخطورة التي لن يفلح معها استمرار ترديد الاسطوانات المشروخة حول الوحدة الوطنية والنسيج الواحد لعنصري الأمة، أو تقبيل اللحى بين الرموز الدينية لكلا “المعسكرين”، أو الإبقاء على ملف التوترات الدينية محصورا في يد أجهزة الأمن التي تزيده تأزما، الأمر الذي من شأنه أن يعمق من تصاعد مشاعر الكراهية، وتنامي ثقافة التوجس والريبة المتبادلة بين قطاعات واسعة من المسلمين والأقباط على حد سواء. ولا شك أيضا أن مجمل المعالجات الرسمية لملف الأزمات الطائفية قد آلت إلى التبسيط من شأن هذه الأزمات والالتفاف على الأسباب التي تقود إلى تواترها وتصاعدها اكتفاءً بالمسكنات الوقتية ويرد في هذا الإطار ما يلي:
1-استمرار التباطؤ الشديد من قبل الدولة في معالجة مشكلات الأقباط وثيقة الصلة بأعمال قواعد المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. فمن غير المعقول أن يظل حق الأقباط في بناء أو تجديد أو ترميمم كنائسهم مرهونا بالخط الهمايوني الصادر منذ العهد العثماني ولا يخفف من ذلك نقل بعض صلاحيات “الباب العالي” التي آلت فيما بعد إلى رئيس الجمهورية، إلى المحافظين.
وهنالك أيضا في هذا السياق ما يستشعره الأقباط من غبن مزمن فيما يتعلق بالتمييز ضدهم في تولي الوظائف العامة والمناصب العليا في الدولة.
وفضلا عن ذلك فإن مظاهر التمييز بشكل صارخ تتبدى في مناهج التعليم التي أسقطت عمدا الحقبة القبطية من دراسة التاريخ المصري، وتكره الطلاب الأقباط على حفظ قدر غير قليل من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وتغفل عن تقديم القيم المشتركة فيما بين الأديان عموما.
ويبدو الإعلام بصفة عامة موجها للمسلمين وبخاصة مع التوسع الهائل في البرامج الدينية، سواء في تلفزيون الدولة أو حتى في الفضائيات المستقلة.
2-ميل المعالجات الرسمية للأزمات الطائفية وبخاصة ذات الطابع الاجتماعي التلقائي والعشوائي إلى تنحية القانون جانبا لحساب موائمات سياسية واللجوء إلى المعالجات العرفية ومجالس الصلح التي تقود في نهاية المطاف إلى تيقن الأطراف الضالعة في العنف أو التحريض الطائفي إلى أنها بمنأى عن المحاسبة والعقاب. وربما كان أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث مؤخرا في قرية كفر سلامة بالشرقية التي اتجهت النية في حينها لإغلاق ملف أحداثها بتشكيل مجلس للصلح بحضور سكرتير عام المحافظة ومأمور مركز منيا القمح انتهى إلى إلزام 20 أسرة قبطية أضرمت النيران في منازلها على دفع نصف مليون جنيه على سبيل الدية لأهل القتيل المسلم وإخراج أفراد هذه الأسر من القرية لكون أحد أفرادها هو المشتبه فيه في قتل المسلم كما أجبروا على بيع عقاراتهم المملوكة لأبناء القتيل، بديلا عن إعمال حكم القانون عبر تحقيق نزيه ومحاكمات عادلة، سواء في جريمة القتل أو في جرائم حرائق المنازل والاعتداء على الممتلكات.
وتبدو الموائمات السياسية في المعالجة جلية أيضا في واقعة إشهار إسلام السيدة وفاء قسطنطين –زوجة رجل دين قبطي- حيث انتهى الأمر بتسليمها للكنيسة بمعرفة أجهزة الأمن بعد مظاهرات غاضبة للأقباط، بديلا عن الإقرار بحقها في اعتناق الديانة التي تختارها بحرية، طالما أنه لا يتوافر ما يثبت تعرضها لضغوط أجبرتها على اعتناق الإسلام.
كما تبدو أيضا الموائمات السياسية واضحة التأثير في إغلاق ملف التحقيقات في الأحداث الطائفية التي جرت في أكتوبر الماضي على صلة بـ “سي.دي” الشهير دونما أن يتضح للرأي العام الحقائق فيما يتعلق بالأطراف المسئولة عن تسريب “السي.دي” أو الصحف المسئولة عن إشعال هذه الفتنة، أو الأطراف المسئولة عن إشعال أحداث العنف في تلك الأزمة.
ويؤدي غياب الشفافية في معالجة ملف الأزمات الطائفية إلى تهيئة مناخ خصب لترويج الشائعات حول حالات للتحول الديني من المسيحية للإسلام أو العكس. وربما كان أبرز الأمثلة على ذلك واقعة اختفاء الفتاتين ماريان وكريستين لمدة عامين تقريبا، والزعم باختطافهما من قبل بعض الجماعات وإجبارهن على اعتناق الإسلام. حيث التزمت أجهزة الأمن الصمت تجاه البلاغات المقدمة في هذا الصدد، ولم تفصح عن الرواية الرسمية لملابسات الاختفاء إلا بعد يوم واحد فقط من تدخل رئيس الجمهورية على أثر تناول القضية على إحدى الفضائيات. ومن ثم فقد أدى التعتيم على المعلومات لمدة عامين إلى استمرار الشكوك لدى الأسرة ولدى قطاع واسع من الأقباط تجاه الرواية الرسمية التي زعمت أن الفتاتين قد تزوجتا باثنين من المسلمين ودخلتا الإسلام بمحض إرادتهما ويرفضان العودة لأسرتهما.
3-إن جانبا هاما من ظواهر الاحتقان الديني والطائفي يجد تفسيره في بنية وسلوك النظام الاستبدادي الذي قاد بصورة منهجية منذ عام 1952 مصادرة كاملة للحريات، وأفضى إلى خنق الحياة السياسية والحزبية والحراك المدني بصفة عامة، وهو ما أسهم في العزوف العام للمواطنين عن المشاركة في الشأن العام، واتجاه الأقباط بصفة خاصة للانسحاب من الحياة الثقافية، وقد فاقم من ذلك اتجاه النظام وبكثافة إلى توظيف الدين وبخاصة منذ بداية السبعينيات كمصدر لتعزيز مشروعيته السياسية التي تآكلت إلى حد بعيد بفعل تداعيات هزيمة 1967 واستخدم في ذلك بعض تيارات الإسلام السياسي والجماعات الدينية في ضرب المعارضة أو إحداث توازن سياسي معها.
وقد ساهم التوظيف السياسي للدين أو الإسلام بوصفه دين الأغلبية في انسحاب الأقباط من دائرة المشاركة السياسية وقاد بهم إلى مزيد من التقوقع والانعزال والانكفاء على المؤسسة الدينية القبطية ورموزها بحيث باتت الكنيسة تشكل المجال العام لأنشطة الأقباط والملاذ للشعور بالأمان والحماية والوسيط أو الممثل السياسي للأقباط لدى الدولة.
وفي المقابل فقد ترتب أيضا على التوظيف السياسي للدين من قبل الدولة اختلال التوازنات بين القوى السياسية لصالح الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، وتصاعد دور المؤسسة الدينية الإسلامية ممثلة في الأزهر، وتنامي الضغوط ذات الصبغة الإسلامية على البنية القانونية المصرية من أجل “أسلمتها” وخاصة مع تعديل الدستور عام 1980 والذي أصبحت معه مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.
وفي ظل استمرار القيود الهائلة على العمل السياسي والحزبي، والضغوط المتواصلة على المجتمع المدني، فقد آلت الأمور عمليا إلى “أسلمة” الفضاء السياسي الذي نجح الإخوان المسلمين في شغله تدريجيا إلى الحد الذي باتت فيه الجماعة المحظورة قانونا تمثل الكتلة الرئيسية للمعارضة –إن لم تكن الوحيدة- تحت قبة البرلمان.
ولا يخفى أن من شأن هذا الصعود المتواصل للإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين بخطابهم الإسلامي المتشدد أن يقود بدوره إلى مقابلته بخطاب مماثل في التشدد والتطرف لدى المعسكر الآخر غير المسلم. وخاصة في ظل قراءة واقعية لحالة الضعف التي تمر بها الدولة تحت وطأة ضغوط البيئة الدولية والإقليمية والداخلية.
لقد قاد نظام الاستبداد ومعالجاته الرسمية لملف الأزمات الطائفية إلى تأجيج مشاعر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد بما ينذر بنتائج كارثية يصعب تفاديها مستقبلا، وبات من المتعذر تفادي هذه المخاطر بدون برنامج شامل للإصلاح السياسي والدستوري وإعادة الاعتبار لقاعدة المواطنة التي يتأسس عليها المساواة في الحقوق والواجبات بين كافة المواطنين. ويرد في هذا الصدد على وجه الخصوص.
أولا: إلغاء قانون الخط الهمايوني والقواعد العشر لبناء الكنائس (المعروفة بقواعد العزبي باشا)، وإصدار قانون موحد لبناء دور العبادة وصيانتها يكفل المساواة بين أتباع الأديان والمذاهب الدينية.
ثانيا: النزول على استحقاقات الإصلاح الديمقراطي وعلى الأخص فيما يتعلق برفع القيود على العمل السياسي الحزبي وحرية تكوين الأحزاب وإطلاق حريات التعبير وحرية تكوين الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ومن شأن ذلك أن يضع حدا لتديين الفضاء السياسي.
ثالثا: تبني نظام انتخابي جديد يقوم على القوائم النسبية غير المشروطة، ويحفز الأحزاب على التقدم بمرشحين من الأقباط وغيرهم من الفئات المهمشة، ويفرض خطرا على استخدام الشعارات الدينية وابتزاز أصوات الناخبين باسم الدين، ويهيئ فرصا أفضل لضمان أن تعكس نتائج الانتخابات التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني لفئات المجتمع المصري.
رابعا: إعمال مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز في شغل الوظائف العامة بحيث لا يخضع تولي هذه الوظائف إلا لمعايير الكفاءة المهنية.
خامسا: إن مواجهة أعمال العنف الطائفي لن يتأتى بالتهوين من شأنها أو التعتيم عليها، وينبغي إحاطة الرأي العام بالحقائق كاملة في مثل هذه الأعمال كما ينبغي تطبيق القانون بصرامة على مختلف الأطراف التي تشارك في تأجيج أعمال العنف الطائفي.
سادسا: إجراء مراجعة شاملة لمناهج التعليم وسياسات الإعلام تستهدف الإعلاء من قيم التسامح وتعزز ثقافة المواطنة والحريات ونبذ والعنف واستئصال سموم التعصب والكراهية الدينية والعمل على تطوير وتفعيل مواثيق الشرف الصحفية والإعلامية في التصدي للمعالجات الإعلامية التي تنتهك القواعد المهنية وأخلاقيات المهنة وتسهم في إذكاء الفتن والتعصب.
أخيرا: يبقى التأكيد أن معالجة هموم الأقباط لا يمكن أن تتم بمعزل عن الرؤية الشاملة للمواطنة المنقوصة وإهدار حقوق الإنسان لمجمل المصريين في ظل مناخ الاستبداد السياسي والتعصب الديني.. ودونما برنامج شامل للإصلاح في شتى المناحي وتوافر إرادة سياسية لتنفيذه، سيظل المجتمع أسير خطابات طائفية تكرس انقسامه وتضر بحقوق الأقباط وتؤخر خلاص المصريين بصفة عامة من حقبة ممتدة من الاستبداد.
* أعد هذه الورقة أ/عصام الدين محمد حسن رئيس تحرير مجلة “سواسية”.
Share this Post