فى تصعيد جديد..تجاوزت الأجهزة الأمنية والإدارية كافة التوقعات مواصلة إجراءاتها التعسفية فى مواجهة دار الخدمات النقابية والعمالية وذلك برفض قيد مؤسستها الأهلية وفقاً لقانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002 ولائحته التنفيذية.
وكانت الدار قد تقدمت بطلب قيد المؤسسة مرفقاً به المستندات اللازمة التى تسلمتها مديرية التضامن الاجتماعى فى الثالث عشر من يونيو الماضى..ولدى انتهاء مدة الستين يوماً التى يفترض أنها الحد الأقصى للبت فى طلب القيد فوجئت الدار اليوم بعدم الموافقة على قيد المؤسسة مسبباً-وفقاً لما ورد فى القرار-“باعتراض الجهات الأمنية نظراً لتوافر مبررات الاعتراض وفقاً لأحكام المادة 11 من القانون 84 لسنة 2002.
الجدير بالذكر أن أغراض المؤسسة وأنشطتها وكافة ما يتعلق بإجراءات تأسيسها كانت قد تمت مناقشتها على امتداد أكثر من شهرين..حيث تشكلت لهذا الغرض لجنة ثلاثية من وزارة التضامن الاجتماعى برئاسة السيدة/ مدير إدارة الجمعيات المركزية، كما تم فحص الأوراق تباعاً من قبل مديرية التضامن الاجتماعى بالقاهرة، وإدارة التضامن الاجتماعى بحلوان.. ولم تتسلم الجهة الإدارية طلب القيد والأوراق المرفقة به رسمياً إلا بعد التأكد من استيفاء الأوراق ومطابقتها للشروط القانونية وعلى الأخص عدم مخالفة أغراض المؤسسة لأحكام المادة 11 من قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
ولعله غنىٌ عن الذكر أن اعتراض الجهات الأمنية لا محل ولا ذكر له فى قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذى تنص المادة الثانية من مواد إصداره على أنه “يقصد بالجهة الإدارية فى تطبيق أحكامه وزارة الشئون الاجتماعية ( التضامن الاجتماعى الآن)..حيث يحق لهذه الجهة أن ترفض قيد الجمعية أو المؤسسة من تاريخ تقديم الطلب إليها فقط إذا تبين لها أن من بين أغراض الجمعية نشاطاً مما تحظره المادة (11) من القانون على أن يكون الخطاب مسبباً يخطر به ممثل جماعة المؤسسين خلال ستين يوماً من تاريخ تقديم الطلب (المادة 6 من القانون)..
ولما كان القرار الصادر برفض قيد مؤسسة دار الخدمات قد خلا من أى سبب واضح لتوافر مبررات الاعتراض عليها وفقاً لأحكام المادة 11, ومن ذكر أىٍ من أغراضها يمكن اعتباره من الأنشطة التى تحظرها المادة 11، ولما كانت الجهة الإدارية بكافة مستوياتها قد فحصت وراجعت كافة أغراض المؤسسة عشرات المرات أثناء التفاوض معها فى هذا الشأن ، وانتهت إلى التوافق مع الدار على هذه الأغراض.. فإنها لم تجد ما تقدمه سبباً لرفض القيد سوى الإعلان الصريح عن اعتراض الجهات الأمنية!!.
هل يمكن لأحدٍ أياً ما ذهب به الخيال أن يتصور أن هذه المؤسسة التى يُرفَض قيدها اليوم هى مؤسسة كبيرة تأسست منذ أكثر من سبعة عشر عاماً ، وامتدت أنشطتها وأفرعها من القاهرة إلى محافظات الوجه البحرى ، والقبلى.. أن هذه المؤسسة قد حصلت على جائزة الجمهورية الفرنسية لحقوق الإنسان عام 1999 تقديراً لدورها المتميز فى الدفاع عن هذه الحقوق على أرض الواقع ؟!!
هل يمكن لأحدٍ أياً ما بلغت معرفته لطبيعة أوضاع المجتمع المدنى فى بلادنا، وما تعانيه المنظمات الحقوقية والدفاعية من عسف وتعنت ..أن يتخيل أن هذه المؤسسة قد عجزت منذ عام 2003 عن مجرد تسليم طلب قيدها لوزارة التضامن الاجتماعى رسمياً ..ببساطة لأن موظفى الوزارة يمتنعون عن ذلك ما لم يحصلوا على ضوء أخضر من الأجهزة الأمنية؟!!
هل يمكن لمجتمع تتقلص فيه المساحة المتاحة للعمل الأهلى المستقل إلى هذا الحد أن يعرف طريقه إلى التنمية، وأن يبرح ساحات التخلف ، والتطرف، والعنف إلى مناطق الحوار والمفاوضة المجتمعية؟!!
هل يمكن لمجتمع لا يعجز أفراده ومنظماته ومؤسساته عن المشاركة فى صنع القرار فقط..بل أنـــــــــــــــــهم لا يستطيعون التعرف على مراكز صنع القرار أصلاً ..حيث يصطدمون دوماً فى الجهات والمؤسسات التى تفترض مسئوليتها دستورياً وقانونياً بعبارة ” القرار ليس قرارنا”..هل يمكن لمجتمع لا يعترف لأبنائه بحقهم فى الحركة المستقلة ، ويبسط عليهم كل صور الرقابة المسبقة مفترضاً فيهم القصور وانعدام الأهلية أو سوء القصد والبعد عن السواء..مجتمع محاصر بالقوانين الاستثنائية والجهات الإدارية والأمنية..تختنق فيه المبادرة المستقلة ، وتصبح فيه المشاركة المجتمعية مخاطرة محفوفة بالمخاطر مدفوعة الثمن..
هل يمكن لمجتمع كهذا أن يتوازن ، أن يستقر.. أن ينعم بانتماء أبنائه إليه ، ومشاركتهم فى بنائه وتطويره؟!
إن دار الخدمات النقابية والعمالية إذ تعلن مجدداً تمسكها بحقها فى البقاء والاستمرار والمشاركة فى الدفاع عن حقوق أبناء شعبنا وعماله..إنما تشدد على توضيح الحقائق التالية:
إن الحق فى تنظيم الجمعيات والمؤسسات الأهلية هو ببساطة حق المجتمع فى أن يكون مجتمعاً حقاً .. هو حق الناس .. كل الناس فى العمل بصورة جماعية من أجل مواجهة صعوبات الحياة والتغلب على مشاكلها .. هو حق سائر فئات المجتمع وطبقاته فى التعبير عن مصالحها الإقتصادية والاجتماعية ، وممارسة نفوذها كجماعات فاعلة ، ومؤثرة فى مراكز صنع القرار .
ولأنه كذلك .. فهو جوهر الديمقراطية ومعيارها ، بل مغزاها ومضمونها .. وهى بغيره محض ديكور زائف لا معنى له ، ولا حياة فيه .. حيث يختزل الحق فى التغيير إلى مجرد الحق فى اللغو والثرثرة-أو الصراخ فى أفضل الأحول-.
إذا كان الحق فى التنظيم هو الحق فى تكوين النقابات ، والجمعيات ، والأحزاب ، وسائر منظمات العمل الأهلى ومؤسسات المجتمع المدنى على تنوعها واختلاف مُسمياتها ..وهو حق هذه المنظمات جميعها فى أن تكون مستقلة .. وأن تمارس فاعليتها وأنشطتها دون تدخل أو وصاية حكومية .. فقد بات هذا الحق راسخاً الآن، ومستقراً ضمن منظومة حقوق الإنسان العالمية..
.. كما أن الدستور المصرى نفسه قد كفل فى مادتيه الخامسة والخمسين والسادسة والخمسين حق تنظيم الجمعيات ، والنقابات والاتحادات ، ولم يقيدها بغير حظر النشاط السرى وذى الطابع العسكرى عليها .
.. غير أن هذه المفاهيم والحقوق المستقر عليها-على النحو الذى لا تُفترض معه الحاجة إلى إعادة تكرارها- لم تزل محلاً للخلاف فى بلادنا .. وهو الخلاف الذى لا يثير الجدل فقط ، وإنما تُستدعى أيضاً فى التعامل معه القوانين الاستثنائية و سطوة مؤسسات الدولة-
إن رفض قيد مؤسسة دار الخدمات وفقاً لأحكام قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية إنما يبدو استمراراً لسلسلة الإجراءات المتعسفة الإدارية والأمنية التى تم اتخاذها فى مواجهة دار الخدمات النقابية والعمالية ، بدءاً بإغلاق فروعها فى المحافظات..وصولاً إلى محاصرة مقرها الرئيسى فى حلوان بقوات الأمن المركزى، وتشميعه، ونزع عداده الكهربائى دون مسوغ أو سند من واقع أو قانون.. حيث يبدو الأمر وكأنه إصرارٌ على رفض الحوار ..وعلى اعتماد التعامل الإدارى والأمنى أسلوباً وحيداً لعلاقة الدولة و الحكومة مع المجتمع المدنى بكافة فئاته وفصائله ..مع كافة الأحزاب والجماعات والفرق..بل والأفراد..وهو الأمـــــــر الذى يقطع باستحالة أى تطوير أو إصلاح ديمقراطى جاد ..ويؤدى إلى استشراء حالة اليأس والإحباط التى تمسك بالغالبية العظمى من أبناء شعبنا مُفسحةً ساحتهم للميول الأكثر عنفاً وتطرفاً.
إن هذه الإجراءات الإدارية والأمنية التى تم اتخاذها فى حق دار الخدمات النقابية والعمالية ..قد جاءت فى أعقاب حملة الهجوم التى تعرضت لها الدار منذ منتصف ديسمبر الماضى –والتى قام بشنها اتحاد نقابات عمال مصر مدعوماً ببعض الأطراف الحكومية على خلفية الإضرابات وحركات الاحتجاج المتكررة التى شهدتها الساحة العمالية-فيما يعد عودة للأسلوب- الذى لم يعد عبثه محلاً للجـــــــــــدال- فى البحث عن محرض أو متآمر وراء أى تحرك أو حركة جماهيرية ..بكل ما ينطوى عليه ذلك من إدارة الظهر إلى المطالب الحقيقية لهذه الحركة ، والاستهانة بالدوافع الفعلية لتـــــــــوترها…وما يترتب عليه من تزايد حالة الاحتقان التى يعيشها مجتمــــــــــــعنا بدلاً من السعى إلى تفكيكها.
إن قرار الجهات الأمنية والإدارية الصادر برفض قيد الدار إنما يكشف عن مفردات العقلية الشمولية التى لا تعرف الحوار إلا من جانب واحد..ولا تتصور الاستقرار إلا فى هيمنة أجهزة الدولة على كل صغيرة وكبيرة فى المجتمع..وسد الأبواب فى وجه الجدل الاجتماعى والمفاوضة المجتمعية الضروريان كليةً لتوازن المجتمع وتطوره..ويؤكد استمرار الأساليب التى وصلت بنا إلى ما أصبحنا عليه من حال يعانى فيها مجتمعنا من أزمة على كافة الأصعدة، ورغم ذلك يبقى الإصرار على الحيلولة دون المشاركة والرقابة المجتمعية، ومحاصرة وإقصاء كافة القوى الديمقراطية..كافة الأطراف والمنظمات والحركات الاجتماعية.
إن دار الخدمات النقابية والعمالية إذ تؤكد على حقها فى إعادة فتح مقراتها، وممارسة أنشطتها..إنما تدعو كافة القوى الحية والفاعليات الديمقراطية ومنظمات ومؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية إلى التضامن معها فيما تتعرض له من هجوم ضارى منذ مطلع العام الحالى وحتى الآن .. وإلى مطالبة كافة الأجهزة التنفيذية والحكومية بكف مختلف صور التحرش بها، وإلغاء كافة القرارات الجائرة بإغلاق مقراتها، ورفض قيدها، وتمكينها من استئناف وتطوير أنشطتها وفاعلياتها.
*دار الخدمات النقابية و العمالية
Share this Post