الترحيب بالقضاء الدولي…”ورقة موقف”

In البرنامج الدولي لحماية حقوق الإنسان by CIHRS

يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن ترحيبه ببسط اختصاص القضاء الدولي على عدد من الجرائم الكبرى والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في عالمنا العربي، وهو ما جسدته على وجه الخصوص في الآونة الأخيرة قرارات مجلس الأمن بإحالة ملف الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في إقليم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة من يثبت تورطهم في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. والمؤكد أن التطلع إلى دور أكبر للقضاء الدولي في العالم العربي كمدخل للوصول إلى الحقيقة، وإنجاز العدالة ومنع الإفلات من العقاب، يعكس على الجانب الآخر ما أفضت إليه السياسات والممارسات المنتهجة من قبل أغلبية الحكومات العربية، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي من تقويض فعالية النظم القضائية القائمة وتراجع الثقة في قدرة القضاء الوطني على تحقيق العدل والإنصاف. ونشير في هذا الصدد إلى أن هذا التوجه الدولي كان من الممكن أن يكتسي قدرا أكبر من الانسجام، لو كان قد استجاب أيضا للمناشدات المتعددة التي كانت تتطلع إلى محاكمة طاغية العراق السابق صدام حسين أمام محكمة دولية خاصة، لقطع الطريق على كافة المطاعن التي أحاطت بمحاكمته أمام محكمة عراقية خاصة، سواء تحت دعوى خضوعها لضغوط الاحتلال أو باعتبار أن تقاليد وقواعد العدالة على المستوى الوطني كان قد تم الإجهاز عليها كليا خلال الحقبة الصدامية.
ولا شك أن غياب الديمقراطية في العالم العربي، قد أسهم في تقويض استقلال القضاء، وفي إفراغ الضمانات الدستورية حول استقلال السلطة القضائية من أي مضمون، وخاصة إذا ما أخذ في الاعتبار أن واحدة من الآفات الأساسية في الدساتير العربية تتمثل في تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وأن صناعة التشريع كانت ولا تزال تدار من قبل السلطة التنفيذية حتى في البلدان التي عرفت الحياة البرلمانية حيث تظل أغلب البرلمانات تمثل تعبيرا عن سطوة التنظيم السياسي الوحيد أو الحزب القائد، وهى السطوة التي تكفل للسلطة التنفيذية تمرير ما تشاء من تشريعات بما في ذلك تلك التي تجافي الضمانات الدستورية لاستقلال القضاء.
وربما جاز القول أنه باستثناء الحالة المصرية التي عرف فيها القضاء استقلالا نسبيا مقارنة بمختلف الدول العربية، التي يصعب القول بوجود مؤسسات قضائية في بعضها، فإن أوضاع السلطات القضائية في العالم العربي تشكل اخلالا فادحا بمعايير استقلال القضاء والذي يظل خاضعا لدور بارز لوزراء العدل والأجهزة الإدارية المرتبطة بوزارات العدل، والتي تستأثر بصلاحيات واسعة في تعيين القضاة وترقيتهم وندبهم ونقلهم وفي التفتيش القضائي عليهم، علاوة على عدم استقلالية ميزانية القضاء في هذه البلدان.
• ففي مصر لا تعني استثنائية الحالة المصرية أن القضاء فيها قد حقق استقلالا ناجزا حيث تتبدى مظاهر عديدة لتدخل السلطة التنفيذية في شئون القضاء وتسيير العدالة يتجسد أبرزها في الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، والتي تتيح له تعيين النائب العام. وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس مجلس الدولة، فضلا عن الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية في ظل حالة الطوارئ السارية منذ أكثر من ربع قرن، حيث يحق لرئيس الجمهورية أن يحيل إلى القضاء العسكري الأشخاص المتهمين بأى تهمة يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر. وإذا ما افترض أن الحكومة عازمة على إنهاء حالة الطوارئ، فمن المؤسف أن التعديلات الدستورية التي اعتمدت في أبريل الماضي قد كفلت لرئيس الجمهورية ذات الصلاحية بدعوى مكافحة الإرهاب.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تعرض نادي القضاة –الذي يعتبر بمثابة رابطتهم المهنية- لضغوط مختلفة وخاصة إزاء الدور المتزايد الذي يلعبه النادي في التعبير عن المطالب المشروعة للقضاة التي تستهدف تعزيز استقلال القضاء، وقد شملت هذه الضغوط إحالة قاضيين بارزين من نواب رئيس محكمة النقض الى مجلس تأديبي بسبب دورهم في نقد عدم نزاهة الانتخابات العامة.
• وفي تونس يجري اختيار أعضاء المجلس القضائي الأعلى بموجب مرسوم رئاسي ولا يتيح القانون انتخاب سوى ثمانية أعضاء من أصل ثمانية عشر عضوا، وتتخذ قرارات المجلس بالأغلبية وفي حالة تساوي الأصوات فان صوت رئيس الجمهورية أو صوت وزير العدل هو الذي يرجح الكفة . ويلاحظ أن المجلس الذي يخضع لسيطرة السلطة التنفيذية يتولى اختصاصات واسعة في ترشيح القضاة لتولي مناصبهم وفي تحديد حركة التنقلات القضائية. كما يضطلع بدور مجلس التأديب للقضاة. ويمتد اختصاص المحاكم العسكرية الاستثنائية –التي تتحكم السلطة التنفيذية في تشكيلها- إلى المدنيين إذا ما كان من بين المتهمين في القضايا أفراد عسكريون.
كما يلاحظ أن السلطات التونسية التي دأبت على سياسة حصار مؤسسات المجتمع المدني ومحاولة تقويضها، قد امتدت إلى جمعية القضاة التونسيين التي انخرط أعضاؤها في المطالبة بإصلاح مرفق القضاء وتعزيز استقلاله، وهو ما انتهي بتفكيك هياكلها الشرعية وإقصاء هيئتها المنتخبة وتوظيف القضاء الخاضع لهيمنة وضغوط السلطة التنفيذية في استصدار قرارات بإغلاقها.
• وفي لبنان يجري تعيين القضاة بمرسوم بناءً على اقتراح من المجلس القضائي الأعلى بيد أن القانون لا يلزم السلطة التنفيذية بأخذ رأي المجلس بعين الاعتبار. كما يجري تشكيل المحاكم العسكرية من قبل السلطة التنفيذية، وتصنف محكمة العدل اللبنانية باعتبارها محكمة استثنائية وخاصة وأن احالة القضايا إليها تتم بموجب مرسوم من مجلس الوزراء وهى على الأغلب قضايا ذات صبغة سياسية والأحكام التي تصدر فيها غير قابلة للاستئناف أو الطعن.
• وفي الأردن تتمتع السلطة التنفيذية بصلاحيات التعيين لرؤساء المحاكم حيث يجري تعيين رئيس محكمة التمييز من خلال مرسوم ملكي وكذلك رئيس المحكمة العليا ويتم شغل المناصب القضائية الأخرى بشكل مباشر من قبل السلطة التنفيذية ومن ثم يصعب القول بأن المجلس الأعلى للقضاء في الأردن الذي يضم شاغلي هذه المواقع يتمتع باستقلال فعلي.
• وفي سوريا يلفت النظر أن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء هم في مجملهم أعضاء في حزب البعث الحاكم. كما أن رئيس الجمهورية هو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى إضافة لكونه يرأس السلطة التنفيذية. ويناط بالرئيس تعيين جميع أعضاء المحكمة الدستورية برغم أنها المحكمة الوحيدة المختصة بمحاكمة رئيس الجمهورية في حال اتهامه بالخيانة العظمى. ويمنح القانون لرئيس مجلس القضاء الأعلى ولوزير العدل صلاحية تقديم الاقتراحات بتعيين قضاة المحاكم وترقياتهم ونقلهم وتأديبهم وعزلهم. كما أن إدارة التفتيش القضائي تتبع بصفة مباشرة وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى. كما أن قرارات هذا المجلس سواء بشأن التعيين أو الترقي أو النقل أو التأديب لا يجوز الطعن عليها أمام هيئة أخرى.
كما يلاحظ أن محكمة أمن الدولة يمكن أن تتضمن تشكيلا مختلطا من عسكريين وقضاة منتدبين من وزارة العدل وتكون أحكامها نافذة بموجب التصديق عليها من الحاكم العرفي أو من ينيبه ويكون على الأغلب وزير الداخلية. وهنالك أيضا المحاكم العسكرية التي يمتد نطاق اختصاصها إلى المدنيين ولا تتقيد بالقواعد الإجرائية المنصوص عليها بشأن المحاكمات الجنائية.
• وفي المملكة العربية السعودية، فإن تعيين القضاة وإنهاء خدمتهم يتم بأمر ملكي بناء على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء الذي يجري تعيين رئيسه وأعضائه كذلك بأمر ملكي أيضا. وعلاوة على ذلك فان الملك هو الذي يعين رئيس محكمة التمييز ويقف دور المجلس الأعلى للقضاء عند اقتراح أسماء نواب رئيس المحكمة وقضاة المحاكم العامة والجزئية الذين يصدر بتعيينهم قرار من وزير العدل.
• وحتى في المغرب الذي قطع شوطا مهما في التحول الديمقراطي، فإن الملك يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويظل دور هذا المجلس محدود القيمة اذا ما أخذ في الاعتبار أنه يمارس دورا استشاريا طالما جاز للملك أن يقبل توصياته أو يرفضها. ولا يحق للقضاة تأسيس نقابات أو الانتماء إليها، ومارست السلطات المغربية ضغوطا على بعض القضاة بسبب انخراطهم في إطار “جمعية الدفاع عن استقلال القضاة” وأجبروا على الانسحاب منها بعد توجيه رسالة ملكية لمجلس القضاء الأعلى تحظر انخراط القضاة في أي جمعية باستثناء ما عرف باسم “الودادية الحسنية للقضاة” المعروفة بقربها من السلطة السياسية .
• ويلاحظ بشكل عام أن السلطة القضائية في البلدان العربية تفتقر عموما إلى الاستقلال المالي حيث تتحكم وزارة العدل في ميزانياتها بصورة تكاد تكون كاملة، كما تفتقر هيئات الادعاء العام في معظم البلدان العربية للاستقلالية وخضوعها للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل وهو أمر يكتسي مزيد من الخطورة مع اتجاه العديد من البلدان العربية –تحت ذريعة مكافحة الإرهاب- إلى سن تشريعات خاصة تمنح سلطات أوسع لجهات الادعاء العام وتنتقص من اختصاصات القضاء بهدف إفساح المجال للاحتجاز والحبس الاحتياطي رهن التحقيق لفترات طويلة مثلما حدث في مصر وتونس والمغرب والأردن والجزائر.
وأخيرا، فإن إعادة الاعتبار للقضاء في العالم العربي لمعايير العدالة يقتضي تضافر جهود أجهزة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية مع جهود المؤسسات الحقوقية والجماعات القضائية في العالم العربي من اجل حفز الحكومات العربية علي تبني برامج لتعزيز استقلال القضاء وعلي الأخص مراجعة الدساتير العربية بما يضمن منح الأسبقية في التطبيق للالتزامات الدولية ذات الصلة بانجاز العدالة واستقلال القضاء، والتحقق من انسجام التشريعات الوطنية مع تلك الالتزامات، وكفالة الاستقلال المالي والإداري للهيئات القضائية، وغل يد السلطة التنفيذية عن تشكيل المجالس القضائية العليا وإفساح المجال لمبدأ انتخاب أعضاء هذه المجالس من قبل الجمعيات العمومية للمحاكم، وإعطاء هذه المجالس سلطات تقريرية في تعيين القضاة ونقل تبعية التفتيش القضائي من وزارات العدل إلي المجالس القضائية العليا، ووضع حد نهائي لأشكال القضاء الاستثنائي، وإنهاء تبعية هيئات الادعاء العام لسلطة وزارة العدل، وكفالة حق القضاة في تأسيس الجمعيات والنقابات التي ترعي مصالحهم وترقي بالمهنة وتسعي إلي صيانة استقلال القضاء.

قام بإعداد الورقة: عصام الدين حسن، باحث بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان،
ورئيس تحرير مجلة (سواسية(

Share this Post