بهي الدين حسن
تحدثت في الجزء الأول من مقالي عن أربع رسائل، يمكن استخلاصها من أزمة الانتقادات الأوروبية للوضع الحقوقي في مصر، والرد الحكومي «الهستيري» عليها، وكذلك زيارتا رئيس البرلمان الأوروبي للقاهرة، والدكتور فتحي سرور «رئيس مجلس الشعب»، لواشنطن.
ولأنني استفضت في الحديث عن الرسالتين الأولى والثانية بالأمس، فمن الطبيعي أن أختص الجزء الثاني من المقال للحديث عن الرسالتين الأخيرتين، وأبدأ بـ«الرسالة الثالثة» التي أراها تتعلق بالتدهور الهائل في أداء الدبلوماسية المصرية إلى درجة تثير شفقة المصريين وسخرية غيرهم.
إن مصر التي كانت المورد الرئيسي -بالسخرة- للعمالة الماهرة لكل من احتلها من الإمبراطوريات الإسلامية، انتهاءً بالعثمانية، صارت أفقر دول المنطقة في العمالة الماهرة، وبعد أن كانت أكبر موِّرد لها بعد ثورة النفط في السبعينيات، هوت هذه العمالة إلي قاع قائمة الطلب في الخليج والسعودية وغيرهما، بل صار العثور في القاهرة أو المدن الكبرى علي عامل ماهر في أي شيء، حدثًا يتلفقه الأصدقاء والأقارب، سواء كان سباكًا أو كهربائيا أو نقاشًا أو حتى طبيب، ولكن الدبلوماسية المصرية كانت آخر المعاقل الصامدة أمام غزو انهيار المهنية، وانحدار قيمة العمل وتجويده، وذلك بفضل أن الدبلوماسيين -بحكم المهنة- هم أكثر الفئات احتكاكًا بالعالم الخارجي، وتعرضًا كل يوم لمنافسة مهنية من دبلوماسيي الدول الأخرى، وتفاعلاً بالتالي مع ديناميكيات التغيير والتقدم، التي لا ترحم المتفرج والبائس، ولا تقبل أعذارًا أو انتظارًا.. ولكن يبدو أن آخر القلاع بدأت تتهاوى في السنوات الأخيرة، وتمثل أزمة قرار البرلمان الأوروبي جرس إنذار صارخًا للأداء الدبلوماسي المصري.
لقد بدا من خلال رد الفعل الهستيري للحكومة المصرية علي القرار قبل صدوره بساعات محدودة في يوم إصداره نفسه، أن الدبلوماسية المصرية لم تكن على علم بمشروع قرار غير سري، تجري مناقشته بشكل مفتوح وعلني لعدة أسابيع بين أعضاء البرلمان، جرى خلالها إعداد أكثر من مسودة، وتداولها مع السفارة المصرية، ومنظمات حقوق الإنسان!
ولا تستطيع أيضًا التمييز بين برلمان منتخب بشكل حر ومستقل وبين الحكومات، فتستدعي سفراء هذه الحكومات، للاحتجاج علي قرار لن يصدر عنها، ولم تكن لتستطيع أن توقف صدوره، بصرف النظر عن الساعات المحدودة المتاحة بين استدعائهم الخارجية المصرية وتوقيت صدور القرار في اليوم نفسه!
كما بدت الخارجية المصرية، وكأنها لا تعرف الفرق بين البرلمان الأوروبي والبرلمان المصري، الذي لا يتمتع بأي هامش استقلالية، ويدار بالحكومة المصرية علي النحو الذي أوضحه فتحي سرور منذ أيام، عندما اجتمع مع الرئيس مبارك -أي رئيس السلطة التنفيذية بنص الدستور- ليتلقي رئيس السلطة التشريعية منه التوجيهات بخصوص زيارته القادمة لواشنطن، خاصةً ماذا يقول لهم في موضوع المعونة الأمريكية!!
كما بدت أيضًا كما لو كانت تجهل نظام التصويت في البرلمان الأوروبي، فاعتبرت أن التصويت علي قراره بخصوص حقوق الإنسان في مصر، جري بأقلية محدودة، بينما وفقًا للقواعد كان بأغلبية كاسحة، وبموافقة مسبقة وتوقيع رؤساء كل الكتل البرلمانية، دون صوت واحد معارض!
وفي هذا السياق، أثار تماثل رسالتي احتجاج أبوالغيط، وفتحي سرور، إلي البرلمان الأوروبي، دهشة وسخرية أعضاء البرلمان، نظرًا لتطابقهما شبه الكامل، كلمة بكلمة، ربما باستثناء اختلاف شخصية موقَّع الرسالة!
كما توضح الأزمة الفارق الهائل في عملية اتخاذ القرار. الواقع نحن أمام عالمين أو كوكبين، أو أهل الأرض وأهل الكهف، وليس مجرد فارق كمي، فقبل اتخاذ البرلمان الأوروبي قراره، أجري مشاورات واسعة مع أطراف متعددة أوروبية وغير أوروبية، حكومية وغير حكومية، ودرس تقارير نوابه الذين زاروا مصر ولم يتلقوا ردًا جادًا علي أي سؤال يتعلق بحقوق الإنسان من الحكومة أو مجلسها القومي، وعقد جلسات استماع، واستضافت لجانه المختصة أحمد أبوالغيط، قبل إصدار القرار بأسابيع محدودة، ولكنه عجز عن أن يقدم إجابة شافية واحدة عن أي سؤال يتعلق بحقوق الإنسان.
وعندما اندلعت الأزمة، وفوجئ البرلمان بالرد الهستيري الحكومي المصري، فإنه -أي البرلمان الأوروبي- حلل ردود الفعل علي جميع المستويات، وعندما شرع رئيس البرلمان الأوروبي في الإعداد لزيارة «الترضية»، استطلع آراء أطراف عديدة، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان الأوروبية، ثم اجتمع مع منظمات حقوق الإنسان في مصر -خلال زيارته الخاطفة- التي كانت قد اجتمعت أيضًا قبلها بيوم، مع مساعده ألكسندر ستوتزمان، بينما لم تسع الحكومة المصرية في أي لحظة للتشاور والاستماع لوجهة نظر منظمات حقوق الإنسان، لا قبل القرار، ولا عند بحثها في سبل الرد عليه، ولا بعد صدوره، ولا قبل زيارة رئيس البرلمان الأوروبي، ولن يحدث ذلك بعدها أو في أي وقت آخر.
فالسياسة في مصر تدار بالأوامر، مثلها في ذلك مثل أمور الاقتصاد والمجتمع، ولا مجال للتشاور والاستماع لوجهة نظر أخرى، فالدائرة الضيقة لصنع القرار تملك كل الحكمة في كل المجالات، والاستماع لوجهات نظر أخري مطلوب فقط لأسباب خارجية، حينما يراد إقناع العالم الخارجي بأن الحكومة المصرية ديمقراطية وحريصة علي الحوار!
جدير بالذكر، أن المفوضية الأوروبية كانت قد استطلعت رأي منظمات حقوق الإنسان المصرية، قبل أن تتوصل للصياغة النهائية لاتفاقها مع الحكومة المصرية حول خطة العمل، بل شاركت في حضور مؤتمراتها الخاصة بهذا الموضوع، بينما رفضت الحكومة المصرية دعوات منظمات حقوق الإنسان المصرية المتكررة لها، وامتنعت عن التعليق علي المذكرات والاقتراحات التي بعثت بها إليها.
لا يعني ذلك أن هذا الوضع يرضي الدبلوماسيين المصريين، فخلال الأسابيع الممتدة بين اندلاع الأزمة وزيارة الترضية، أتاحت لي الظروف الالتقاء، في عدة مناسبات، بعدد من الدبلوماسيين المصريين العاملين والمتقاعدين، ولم أجد واحدًا منهم يتفق مع رد الخارجية، بل وصفه البعض منهم بالحماقة وعدم الرشد واللاعقلانية، ولم يكن ذلك مفاجئًا لي تمامًا، ولكن ما فاجأني حقًا، هو الاستجابة التلقائية الفورية وجاهزية النقد.
الرسالة الأخيرة.. تحذير للمجتمع الدولي
يبقي أخيرًا احتمال أخير لتفسير رد الفعل الحكومي المصري، وهو أن عنف الطابع الهستيري الصاخب لهذا الرد كان مدروسًا مسبقًا ومقصودًا في ذاته وليس عفويا -ليس لمنع قرار البرلمان الأوروبي قبل صدوره بساعات، فأي عاقل يعرف أن ذلك كان مستحيلاً- ولكن كجرس تحذير وكابح لقرارات أخري تالية، تتوقع الحكومة المصرية صدورها في المستقبل غير البعيد عن البرلمان الأوروبي، وغيره من المؤسسات والأطراف الدولية الأخرى بخصوص وضعية حقوق الإنسان في مصر، التي تعرف الحكومة المصرية قبل غيرها، أنها ستتعرض خلال الأسابيع والشهور القادمة لهجمة تشريعية جديدة «تتمثل في قانون مكافحة الإرهاب الموضوع لمكافحة المعارضين غير الإرهابيين»، وتعديلات قانون الجمعيات الأهلية «لإحكام القيود عليها، خاصة منظمات حقوق الإنسان» وتعديلات أخري تستهدف حرية الإعلام والصحافة، بدأت تلوح بشائرها من خلال وثيقة الهجمة «الوحدوية العربية التي لا يغلبها غلاب» علي الفضائيات -والتي أعدت الحكومة المصرية مسودتها- ومشروع قانون تداول المعلومات، فضلاً عن هجمة أمنية ترافق الاستعداد لانتخابات المجالس المحلية، التي ستكون أكثر الانتخابات المصرية ابتعادًا عن مفهوم الانتخابات، كما تعرفه حتى دول العالم الثالث!
في هذا السياق، من الطبيعي أن تتوقع الحكومة المصرية تصاعد نقد المجتمع الدولي، وهو ما تهتم به، أما الرأي العام الوطني فلا قيمة له عندها ولا تخشاه، ولذا فإن الحكومة المصرية استهدفت بهذا الرد المسرحي المصطنع علي قرار البرلمان الأوروبي، إرسال خطاب تحذيري غاضب، قد يساعد علي تقليل عدد من القرارات والمواقف الانتقادية القادمة، أو تخفيف حدتها، لكي تستمر في هجومها المضاد والشامل الذي بدأته في أواخر ٢٠٠٥، بأقل قدر ممكن من الضجيج، ولكي تستكمل تصفية ما تبقي من مكتسبات الحراك السياسي المحدود، الذي جرى خلال عامي 2004/2005، والذي مثّل بالنسبة لها كابوسًا مزعجًا يطاردها، خاصةً في فترة انتقالية صعبة من الرئيس الحالي إلى رئيس آخر، ولذا تسعي منذ ذاك بكل الأدوات الدستورية والتشريعية والسياسية والأمنية والقضائية للحيلولة دون تكراره، وقطع الطريق أمام أحد عوامل انبعاثه خلال تلك الفترة، وهو اهتمام المجتمع الدولي المتزايد حينذاك بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، وانعكاس ذلك في الحد من عنفوان القمع الأمني للحراك السياسي في الشارع خلال هذين العامين، بما سمح بتمدد هذا الحراك.
وقد قررت الحكومة المصرية توجيه رسالتها التحذيرية للمجتمع الدولي، من خلال الرد علي القرار الأوروبي بهذه الطريقة الهستيرية المصطنعة، وليس من خلال الرد على قرار الكونجرس الأمريكي، رغم أنه اقترن بتجميد أموال، وتأثيره بالتالي أكبر، فضريبة الرد علي واشنطن بهذه الطريقة غير مأمونة العواقب!
إذا كانت هذه المناورة الثعلبية تفسر رد الفعل الحكومي الهستيري، فإن هذا يثير سؤالاً حيويًا، حول مدى قبول أوروبا وأمريكا رسالة التحذير، وبالتالي التراجع عن النقد العلني الحاد لملف حقوق الإنسان في مصر، والاكتفاء برسائل رمزية ناعمة من حين لآخر.. هذا ما قد تكشف عنه الشهور القادمة، خاصة أن هناك مناسبات كثيرة، على رأسها مشروع قانون مكافحة المعارضة، بدعوى مكافحة الإرهاب، و«اللاانتخابات» المحلية وغيرها.
http://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=96837
Share this Post