يصدر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان اليوم تقريره السنوي الثالث الذي يتناول وضعية حقوق الإنسان في العالم العربي خلال عام 2010، مع التركيز على 12 دولة. هى مصر، تونس، الجزائر، المغرب، السودان، سوريا، لبنان، الأراضي الفلسطينية المحتلة، العراق، المملكة السعودية، البحرين، واليمن.
يصدر التقرير تحت عنوان: “”جذور الثورة”” مواكبا لانتفاضة ثورية شعبية فريدة، يشهدها العالم العربي، عصفت حتى الآن باثنين من أعتى الديكتاتوريات البوليسية في مصر وتونس، وتدق عروش ديكتاتوريات أخرى في ليبيا واليمن، وتفرض بقوة ضرورة إجراء إصلاحات جادة وعميقة في عدد غير قليل من البلدان؛ في مقدمتها المغرب، والبحرين، والجزائر، وتمتد تداعيتها حتى إلى سوريا الواقعة تحت بطش نظام يكاد لا يسمح لمواطنيه بالتنفس.
إن المطالعة المتأنية للتقرير توضح أن أبرز “”جذور الثورة”” في العالم العربي هي
• التدهور الهائل في وضعية حقوق الإنسان، حتى في البلدان التي كانت أو ما زالت تنعم ظاهريا بدرجات من “”الاستقرار”” السياسي.
• افتقار نظم الحكم المختلفة للإرادة السياسية للنهوض بأوضاع حقوق الإنسان في بلادها.
• الجمود على مستوى التطور التشريعي، حيث حافظت نظم الحكم العربية على معين لا ينضب من مخزون التشريعات المعادية لحقوق الإنسان، والتي استخدمت في التأديب والتنكيل بالخصوم، وملاحقة دعاة الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان. بل سجل التقرير في هذا الإطار أن التطورات التشريعية –على محدوديتها في عام 2010- جاءت أغلبها في اتجاه المزيد من التشدد وقمع الحريات وبخاصة في مصر وتونس والسودان.
• استمرار النهج السلطوي في تكريس الحصانة والإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
• توظيف حالات الطوارئ المعلنة وقوانين مكافحة الإرهاب في تبرير ارتكاب جرائم خطيرة، كالقتل خارج نطاق القانون والاختطاف والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والمحاكمات الجائرة، وعلى وجه الخصوص في تونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين والمغرب والمملكة السعودية.
• استمرار السياسات التي تكرس وتؤبد الحكم المطلق أو تمهد لتوريثه في إطار عائلي في مصر وتونس واليمن، أو تؤمن بشكل منهجي التمييز الاجتماعي والاقتصادي والإقصاء السياسي على أسس عرقية أو طائفية أو مذهبية، وبخاصة في البحرين والمملكة السعودية وسوريا.
• تزوير إرادة المواطنين من خلال تزييف الانتخابات العامة. وقد سجل التقرير في هذا السياق ممارسات مزرية لنظام مبارك في إدارة ما سمى “”بالانتخابات”” البرلمانية لمجلسي الشعب والشورى، التي كان من المفترض أن تمهد للانتخابات الرئاسية في العام 2011. وقد استبق نظام مبارك هذه الانتخابات بحملة غير مسبوقة للقمع، وصلت حد التحريض على قتل المتظاهرين، واختطاف النشطاء السياسيين، وإحكام الخناق على وسائط الاعلام، ومختلف التقنيات الحديثة لتداول وبث المعلومات. ولم يختلف الأمر كثيرا في مملكة البحرين التي استبقت الانتخابات البرلمانية بشن حملة اعتقالات واسعة طالت مئات الأشخاص، من بينهم رموز للمعارضة السياسية والمدافعين عن حقوق الإنسان، واقترن اعتقال معظمهم بالتعرض لتعذيب وحشي، قبل أن يتم إحالتهم إلى المحاكمة بموجب قانون مكافحة الإرهاب.
كما جرت الانتخابات العامة في السودان في مناخ قمعي لم يتوقف حتى بعد انتهائها. وجرى التحكم في مسار الانتخابات، عبر التلاعب بالإحصاء السكاني، وترسيم الدوائر الجغرافية، وسجلت أشكال فجة من التلاعب بأصوات الناخبين. وتعذر على السكان في جنوب وغرب دارفور الإدلاء بأصواتهم، في حين أدت الفوضى والعنف إلى تعذر إجراء الانتخابات في عدد غير قليل من الدوائر.
• سد منافذ التعبير السلمي، من خلال الضغوط على حرية التعبير ومختلف وسائل الإعلام التقليدي منها والحديث، وبخاصة في اليمن ومصر والسودان والبحرين. على حين حافظ المغرب على ممارساته المتشدة في التنكيل بالصحافة، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر المساس بالملك والأسرة الملكية والإسلام، أو بالموقف من النزاع في الصحراء الغربية.
وظل نظام “”المخلوع”” بن علي في تونس يخضع الحريات الإعلامية للمصادرة بصورة مطلقة، وتوظيف جل طاقات الدولة البوليسية في ملاحقة الصحفيين ومحاكمتهم بتهم ملفقة، وفي تعريض مختلف النشطاء الحقوقيين النقابيين والسياسيين للمراقبات اللصيقة ولأشكال مختلفة من التحرش والاعتداءات البدنية، بل ولتوظيف وسائط الإعلام الخاضعة للهيمنة المطلقة، في شن أكثر حملات التشهير والإهانة بحق عدد كبير من هؤلاء النشطاء.
وقد حافظت سوريا بدورها على موقفها العدائي الذي لا يعرف أدنى تسامح، سواء مع حريات التعبير أو مع النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بصفة عامة، وحقوق وهوية الأقلية الكردية بصفة خاصة. غير أنه من الواضح أن نظام علي عبد الله صالح باليمن، قد تفوق خلال العام حتى على النظام السوري، حيث شملت المحاكمات الجائرة عشرات من الصحفيين تلقوا معظمهم أحكام مغلظة بالسجن، فضلا عن الحرمان من مزاولة المهنة، وطالت المداهمات الأمنية مقار صحفية، وكان عدد غير قليل من الصحفيين هدفا لاعتداءات بدنية أو محاولات للاغتيال، وطال الاختطاف والاختفاء المؤقت والتعذيب لعدد كبير من الصحفيين ومن مدافعي حقوق الإنسان، قبل أن يتم إحالة بعضهم إلى المحاكم الاستثنائية المجافية لمعايير العدالة.
• الاعتداء الجسيم على الحق في المساواة وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق. وخاصة في البحرين ضد الأغلبية الشيعية، وفي مصر ضد الأقباط والنوبيين وبدو سيناء.
• استمرار تراجع اهتمام المجتمع الدولي بحقوق الإنسان والديمقراطية في المنطقة العربية، بل واتجاه الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بصورة متزايدة لتغليب اعتبارات المصالح النفعية مع نظم الاستبداد، على حساب اعتبار حماية حقوق الإنسان والدفع باتجاه الاصلاح الديمقراطي.
حقوق الإنسان في ظل الصراعات المسلحة
وعلى النهج ذاته الذي اتبع في التقريرين السابقين، فإن التقرير السنوي الثالث قد أولى اهتماما خاصا بوضعية حقوق الإنسان تحت وطأة الاحتلال أو في ظل الصراعات المسلحة.
وسجل التقرير في هذا السياق أن الفلسطينيين قد ظلوا هدفا لانتهاكات فادحة، سواء تحت وطأة الاحتلال أو نتيجة للصراع المستحكم بين طرفي السلطة الوطنية الفلسطينية فتح وحماس. فقد تواصلت الجرائم الإسرائيلية وبخاصة عبر العقاب الجماعي والحصار الخانق على سكان غزة، والذي وصل حد مهاجمة قوافل الإغاثة التي عرفت باسم “”اسطول الحرية””. كماتواصلت اجراءت تهويد القدس والنشاط الاستيطاني ومخططات الفصل العنصري وسياسات القتل خارج نطاق القانون.
كما رصد التقرير أن تواصل الصراع بين فتح وحماس اقترن باستمرار التسييس في التمتع بالحقوق والحريات التي ظلت عرضة للانتهاك تبعا للانتماء السياسي. ومن ثم فقد انخرطت السلطات، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة في انتهاكات واسعة النطاق بحق الخصوم، شملت الاعتقال التعسفي والتعذيب والتضييق على حرية الاجتماع والمؤسسات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان وملاحقة الصحفيين والإعلاميين.
وأكد التقرير كذلك أن العراق ظل الساحة الأكبر للعنف الدموي في المنطقة العربية، والذي أودى بحياة ما يقرب من 4 آلاف شخص في غضون عشرة أشهر. وظلت الأقليات الدينية والعرقية هدفا لأعمال عنف وقتل عشوائي، نتيجة هيمنة خطابات وجماعات دينية متشددة على المسرح السياسي والثقافي في العراق.
ورصد التقرير سقوط المئات من القتلى من السكان المدنيين نتيجة للعمليات العسكرية، التي شنت مجددا ضد جماعة الحوثيين في صعدة شمال اليمن، والتي شهدت مشاركة المملكة السعودية في الأعمال القتالية إلى جانب الجيش اليمني، في الوقت الذي سجل فيه التقرير لجوء السلطات اليمنية إلى توظيف دعاوى الحرب على الإرهاب في شن حملات عسكرية تستهدف التنكيل بالمحافظات الجنوبية، التي انخرط سكانها في احتجاجات واسعة النطاق على سياسات التهميش والإقصاء وعلى القمع المتواصل لسكان الجنوب.
كما لاحظ التقرير أن استمرار التأزم السياسي والانقسام الطائفي والمذهبي وحالة ازدواج السلطة في لبنان، قد أدى إلى تراجع فادح في مقومات دولة القانون، وباتت مؤسسات الحكم والأجهزة القضائية والأمنية عاجزة عن النهوض بمسئولياتها، في ظل الضغوط التي يمارسها حزب الله، استنادا إلى ما يسمى “”سلاح المقاومة”” لترويع الخصوم داخل لبنان، وبهدف قطع الطريق على فرص تحقيق العدالة، وكشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ومسلسل الاغتيالات والتفجيرات التي وقعت لاحقا لهذه الجريمة.
وظلت الصراعات المسلحة في السودان مصدرا لتفاقم المعاناة الإنسانية في مناطق عدة مقترنة باستمرار نزوح مئات الآلاف، والقتل لأعداد واسعة من السكان. ومثلما ظلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مختلف البلدان العربية تمر دون عقاب في ظل الحصانات الأمنية، فإن النظام السوداني بدوره ظل قادرا على تحدي استحقاق العدالة الدولية على جرائم الحرب والجرائم ضد
الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية في دارفور، في ظل تقاعس المجتمع الدولي عن تحمل مسئولياته في دعم تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة الرئيس السوداني، وباقي المتهمين بارتكاب هذا النمط من الجرائم.
وفي السياق ذاته، ظلت إسرائيل بمنأى من العقاب على جرائمها، ليس فقط من خلال الحصانة التي تفرضها الولايات المتحدة وأطراف أوروبية على محاسبة اسرائيل، بل أيضا بدا واضحا –كما سجل التقرير- أن مصالح وحسابات مشتركة باتت تجمع بين إسرائيل وطرفي السلطة الوطنية الفلسطينية، تدفع باتجاه التملص من إخضاع ملف الجرائم المرتكبة إبان العدوان على غزة في ديسمبر 2008 إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وأخيرا، فإن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إذ يصدر تقريره السنوي الثالث في لحظة فارقة لشعوب هذه المنطقة، فإنه يأمل أن يشكل التقرير مساهمة إضافية تضئ الطريق لشعوب تتطلع لتعميق مكتسبات الفعل الثوري، وإحداث قطيعة كاملة مع نهج الاستبداد واحتكار السلطة، وتكريس الإفلات من العقاب على امتهان الكرامة الإنسانية. مثلما يأمل أن تقدم “”جذور الثورة”” لبعض البلدان ناقوس خطر يدفع نخبتها الحاكمة إلى أن تبادر –قبل فوات الأوان- في تبني إصلاحات عميقة، تستجيب لتطلعات شعوبها في الحرية والكرامة الإنسانية، وفي الانتقال الآمن إلى مصاف الدول الديمقراطية.
Share this Post