محمد سيد سعيد
جريدة الاتحاد الإماراتية، 23 مايو 2007
ثارت موجة مفهومة من البهجة في الإعلام المصري والقطري بمناسبة فوز البلدين بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ويعد هذا المجلس أحد النتائج القليلة للجهود المضنية لإصلاح الأمم المتحدة ولإنقاذ حقوق الإنسان من الانتهاكات المتزايدة في عدد كبير من دول العالم، وبصفة أخص في العالم العربي وأفريقيا.
وربما نشارك في البهجة لو أن الدولتين العربيتين استعملتا هذه المنصة الجديدة فعلًا من أجل استعادة صورة جيدة وجديدة للعرب أمام أنفسهم وأمام العالم فيما يتعلق بموقفهم من معنى الكرامة الإنسانية ومن تطبيق الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. وقد اشتهر العالم العربي في سائر أنحاء العالم بأنه من أكثر مناطق العالم انتهاكًا لحقوق الإنسان، وهو ما يسهل مهمة الخصوم التاريخيين للعرب في دمغ الثقافة العربية والإسلامية ذاتها باحتقار معنى الكرامة الإنسانية. ومهما قلنا للعالم إن الإسلام هو أول من شرع لحقوق الإنسان في التاريخ، وأول من وضع منظومة أخلاقية ودينية شاملة للتكليف بحماية البشر بل والحيوانات من الجور والعسف… لن يصدقنا أحد إلى أن تعكس ممارساتنا بالفعل هذه المبادئ الإسلامية الخالدة. وإن فهمت الحكومتان، المصرية والقطرية، هذه الرسالة، يصبح من الضروري البدء بإجراء مراجعة سياساتهما في المجال الحقوقي. لكن بدون هذه المراجعة سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل أن يفي المجلس بدوره في مساءلة بقية الحكومات في العالم حول انتهاكاتها. فمهمة مجلس حقوق الإنسان ورسالته تشمل تحسين آليات الحماية الدولية للإنسان في كل مكان في العالم، ويستحيل أن يقوم المجلس بهذا الدور إن كانت دوله الأعضاء تقوم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتستطيع أن تفلت دائمًا بهذه الانتهاكات أمام اللجان المعنية بتطبيق العهود والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
وحتى الآن فإنه من المشروع للغاية أن يشعر النشطاء الحقوقيون في العالم، بالقلق الشديد حول إمكانية قيام هذا المجلس بالدور المنوط به. بل ومن المشروع للغاية أن يشعر النشطاء العرب بالقلق مما تقوله وتفعله الحكومات العربية، بما فيها حكومتا مصر وقطر، في هذا المجال.
على المستوى العالمي، كان المحك الرئيسي لصدقية الآمال المعلقة على المجلس الجديد، أن يضم في عضويته فقط تلك الدول التي تملك سجلًا طيبًا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومبدأ حكم القانون. وقد خسرت الإنسانية هذه المعركة الدبلوماسية في العام الماضي أثناء المناقشات حول اللائحة الأساسية للمجلس بعد أن أقرت الجمعية العامة تشكيله كبديل لمفوضية حقوق الإنسان. انتصرت وجهة النظر التي تقول بأن عضوية المجلس يجب أن تقوم على مبدأ التوزيع الجغرافي المتبع في عضوية معظم وكالات الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة، وليس على سجل الأداء الفعلي في احترام وتعزيز منظومة حقوق الإنسان وفي القلب منها الشرعة الدولية.
اختلط في هذه المعركة عاملان منسجمان تمامًا من حيث الشكل وإن كانا متناقضين من حيث الأثر. فتشكيل مجلس حقوق الإنسان هو اقتراح من جانب المنظمات الحقوقية غير الحكومية لتحسين أداء الأمم المتحدة في تطبيق الاتفاقيات والعهود الدولية المبرمة والموقعة بين الدول الأعضاء. وكان من المنطقي أن تتبنى مجموعة الدول الأوروبية هذا الاقتراح، لأن أداء المفوضية كان محبطًا للغاية، وأن تنجح تلك الدول في إصدار قرار تشكيل المجلس كجزء من برنامج الأمم المتحدة للألفية الجديدة وكأحد أهم محاور إصلاح الأمم المتحدة ذاتها. ولكن الدول الأوروبية وخاصة الدول الاسكندنافية فشلت في إنقاذ مجلس حقوق الإنسان المقترح من نفس الإعاقات التي واجهت المفوضية. إذ فشلت المفوضية في حماية مواطني العالم وفرض احترام وتطبيق المواثيق الدولية بسبب التضامن المتبادل بين الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان، ومن بينها -بكل أسف- كل الدول العربية تقريبًا. أما العامل الآخر فهو السعي المشروع لإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على الأمم المتحدة والنظام العالمي ككل. ووظفت الحكومات ذات السجل المشهور في انتهاك حقوق الإنسان هذه الحجة السليمة لهزيمة مسودة المشروع الأميركي الذي دافع عن حصر العضوية في الدول التي تحترم حقوق الإنسان. وفي النهاية انتصر مشروع الحل الوسط السويدي لصياغة دستور المجلس أو لائحته الأساسية وقد أخذ بالفعل بقاعدة العضوية الجغرافية. وكأن الخصومة العالمية المشروعة مع الهيمنة الأميركية والمشاعر السليمة في العالم بأن الإدارات الأميركية توظف فكرة حقوق الإنسان بصورة نفعية ولخدمة دبلوماسيتها الدولية كانت العامل الأساسي وراء الحط من معنى العضوية في المجلس بأن ضمنت دخوله من جانب حكومات سيئة السمعة في مجال حقوق الإنسان. وبفضل قاعدة التوزيع الجغرافي والتداول على المقاعد المخصصة لمختلف المجموعات الإقليمية، فازت مصر وقطر بعضوية المجلس عن طريق التصويت في الجمعية العامة بداية الأسبوع الحالي.
وعلى المستوى الداخلي، يبدو أن الأمور لا تدفع للطمأنينة حتى الآن. فبكل أسف وظف الإعلام الرسمي في الدولتين هذا الفوز لإشاعة فكرة تقول بأنه يمثل “مباركة” من جانب المجتمع الدولي للسياسات التي تأخذ بها الحكومتان. بل ذهب الإعلام الرسمي للقول بأن الفوز بعضوية المجلس يعد “شهادة” من جانب الأمم المتحدة بنصاعة سجل الدولتين! ويعلم الدبلوماسيون والمشتغلون بقضية حقوق الإنسان أن هذا التفسير لا أساس له من الصحة. فسجل الدولتين الموثق في تقارير المنظمات الدولية والعربية واللجان التعاهدية لحقوق الإنسان… بعيد كل البعد عن النصاعة والبراءة. ويشعر النشطاء العرب بحزن شديد لأن فوز الدولتين بعضوية المجلس تم في وقت يشتد فيه اختراق القانون أو يستخدم القانون والدستور نفسه لتمرير انتهاكات شديدة لأبسط حقوق المواطنين، وخاصة التعذيب والاعتقال التعسفي والمحاكمات غير العادلة. ولم تهتم الحكومتان بتحسين أوضاع حقوق الإنسان كتمهيد مناسب للحصول على عضوية المجلس أو لتأكيد استحقاقها.
ورغم ذلك لا يجب على نشطاء حقوق الإنسان أن يشعروا أبدًا باليأس. فعضوية مصر وقطر بالمجلس، يمكن أن تقود إلى تحسين ولو نسبى لحالة حقوق الإنسان في البلدين. فالعضوية لها مسؤولياتها وقد تضطر الدولتان للاضطلاع بمسؤولياتهما كعضوين في المجلس بما يدفعهما لإحداث تغيير كبير أو ملموس في موقفهما من التطبيق الفعلي للمواثيق الحقوقية الدولية والإقليمية. ويقول أصحاب المدرسة البنائية في علم النفس وعلم الاجتماع إن “الدور يصنع الفاعل” وإن الإدراك نفسه مرهون بالموقع ضمن مصفوفة مسؤوليات وعلاقات. ومن الناحية العملية يعنى ذلك أن تضطر الحكومتان المصرية والقطرية، ثم غيرهما من الحكومات العربية عندما تصعد إلى مواقع العضوية، للرقابة على أحوال حقوق الإنسان في العالم، وهو ما يستحيل القيام به بأية درجة من المصداقية بدون تجنب النقد الموجه لأدائهما في هذا المجال. فإن قامت مصر كعضو بالمجلس بانتقاد التعذيب في بلاد أخرى، فسيكون بوسع ممثلي هذه البلاد أن يتطرقوا إلى التناقض في موقفها إن لم تنه ممارسة التعذيب في أراضيها على الفور.
التفاؤل هو بذاته حق من حقوق الإنسان. ومن المحتم أن نتفاءل بعضوية مصر وقطر بالمجلس، ليس لأن سجلهما في هذا المجال طيب أو مقبول وإنما لأن هذه العضوية قد تساهم في إصلاح حالة حقوق الإنسان والمواطن في العالم العربي ككل. فهل يعني ذلك أن نرهن الإصلاح بعضوية أية مجالس أو منظمات دولية؟ إن مسؤولية الدفاع عن الحق تقع أولًا وقبل كل شيء على صاحبه؛ أي الشعوب العربية ذاتها.
Share this Post