تضامنا مع نضال قضاة مصر وجهودهم التي لم تنقطع من أجل كفالة استقلال القضاء وحصانته في مواجهة تدخلات السلطة التنفيذية، نظم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان حلقة نقاشية موسعة تحت عنوان : “هل يمكن تجنب مذبحة القضاة أو مذبحة الانتخابات؟!”. وتحدث فيها د. محمد سليم العوا المحامي، ود. محمد ميرغني خيري أستاذ القانون العام بكلية حقوق عين شمس، ونبيل عبد الفتاح رئيس وحدة العلاقات الاجتماعية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والمستشار يحيى الرفاعي الرئيس الفخري لنادي القضاة، والمستشارين أحمد مكي ومحمود الخضيري ومحمود مكي وهشام البسطويسي نواب رئيس محكمة النقض، وأدارها بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة.
أكدت مداولات الحلقة النقاشية على ما يلي:
أولا: الارتباط الوثيق بين قضية استقلال القضاء وتنظيم انتخابات نزيهة -يشرف عليها القضاة إشرافا كاملا في كافة مراحلها- سواء على مقعد الرئاسة أو في انتخابات المؤسسات التمثيلية،.
ووجه المتحدثون انتقادات حادة لما شهده الاستفتاء الأخير على تعديل المادة 76 من الدستور من مظاهر شتى لتزوير إرادة الأمة، وإصرار الحكومة على أن يكون إشراف القضاء على هذا الاستفتاء صوريا، بالمخالفة لأحكام الدستور وحكم المحكمة الدستورية العليا. كما أدانوا ما تشهده الانتخابات العامة بصورة روتينية من إهدار لأحكام مجلس الدولة وقرارات محكمة النقض بشأن بطلان إجراءات الترشيح أو بطلان العملية الانتخابية برمتها، ووضع هذه الأحكام في سلة المهملات، وأكد عدد من المتحدثين على أن ظاهرة إهدار أحكام القضاء تجسد احتقار مؤسسات الحكم في مصر للدستور والقانون.
وأكدت المداخلات أنه لا صلاح لأحوال مصر إلا إذا تم تشكيل السلطة التشريعية/البرلمان عبر انتخابات حرة نزيهة تشكل تعبيرا صادقا عن إرادة الناخبين، ووضع حد للتغوّل الهائل للسلطة التنفيذية على سلطة التشريع والرقابة وسلطة القضاء.
2-أعرب بعض المتحدثين عن مخاوفهم إزاء احتمالات إقدام السلطة على مذبحة جديدة للقضاة عقابا لهم على تمسكهم الصارم باستقلاليتهم وبمشروع القانون الذي تقدموا به لتنظيم السلطة القضائية، ورفضهم أن يكونوا “شاهد زور” على مسار الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية، وإصرارهم على أن إشرافهم على العملية الانتخابية يجب أن يكون كاملا ومقترنا بصدور هذا القانون. وأكد بعض المتحدثين أن مذبحة القضاة وصلت لذروتها عام 1969، لكنها بدأت منذ عام 1952 ولم تتوقف حتى الآن، مشيرين في ذلك إلى تشكيل المحاكم العسكرية لعمال كفر الدوار بعد عدة أسابيع من ثورة يوليو، وما عرف بمحاكم الغدر ومحكمة الثورة، وغيرها من المحاكم الاستثنائية التي اغتصبت سلطة القضاء، ويتصل بذلك أيضا ما استحدثه نظام السادات بشأن محكمة القيم ومنصب المدعي العام الاشتراكي، والمحكمة المختصة بشئون الأحزاب، علاوة على محاكم “الطوارئ”، وما دأبت عليه الدساتير المصرية عبر أكثر من 50 عاما من تكريس الاختلالات الجسيمة للتوازن بين السلطات لصالح السلطة التنفيذية، ووضع 65% من الصلاحيات الدستورية في قبضة رئيس الجمهورية بموجب دستور 1971.
وألمح البعض إلى أن تداعيات مذبحة القضاة عام 1969 ما تزال تمارس مفعولها حتى الآن، من خلال الإبقاء على القرار بقانون رقم 82 لسنة 1969، الذي ينص على تشكيل مجلس أعلى للهيئات القضائية يترأسه رئيس الجمهورية، وذلك على الرغم من أن محكمة النقض قد أصدرت منذ ذلك الحين عددا من الأحكام التي أكدت بطلانه وانعدام دستوريته. ومع ذلك تشبثت به السلطة وسعت إلى تحصينه من البطلان بدسه في دستور 1971.
وأشار بعض المتحدثين إلى أنه من غير المرجح تكرار سيناريو الصدام مع القضاة الذي عبرت عنه مذبحة 1969، مرجحا أن المذبحة قد تأخذ أشكالا مختلفة ستلجأ فيها الحكومة إلى استخدام وسائل الترغيب والرشوة والإغراءات والهيمنة المادية على أحوال القضاة للضغط عليهم واستمالة بعضهم، وشق صفوفهم.
3-رصدت المداخلات مظاهر شتى لعوار البنية التشريعية التي أتاحت صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية للتدخل بصورة فجة في شئون القضاء، وأشير في هذا الإطار على وجه الخصوص إلى وضع 58 اختصاصا في قبضة وزير العدل فيما يتعلق بأدق شئون رجال القضاء والنيابة، وتشمل التعيينات والترقيات والمكافآت والندب والتفتيش القضائي، بحيث باتت وزارة العدل على حد تعبير بعض المتحدثين تتحكم في القضاء وترهبه وتفسده عبر الهيمنة المالية والإدارية الكاملة، هذا فضلا عن الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية للتدخل في تسيير العدالة بموجب قانون الطوارئ، وصلاحياته في تعيين رؤساء الهيئات القضائية والنائب العام.
4-أكدت المداخلات أن استقلال القضاء ليس مطلبا فئويا يخص القضاة، بل هو مطلب الشعب المصري، باعتبار أن القاضي المحصن هو الأكثر جدارة في إعادة الحقوق لأصحابها، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بنزاعات أو خصومات بين أجهزة الدولة ومواطنيها، واعتبر بعض المتحدثين أن الخطر الأكبر على حريات المصريين هو في وجود القاضي غير المستقل، بينما أكد آخرون أن البلدان التي يفتقر فيها القضاء للاستقلال لا يمكن اعتبارها بلدانا مستقلة.
وشددت المداخلات على علاقة الارتباط المتبادل ما بين نمو وازدهار المجتمع المدني واستقلال القضاء، ولاحظت التزامن بين حيوية المجتمع المدني وتمتع القضاء بالاستقلال قبل 1952، ثم الاعتداء عليهما معا بعد حركة يوليو. ودعت إلى ضرورة تضافر جهود المجتمع المدني ومؤسساته لمؤازرة القضاة في مطالبهم الرامية للإسراع بإصدار قانون تنظيم السلطة القضائية، الذي يؤمن استقلال وحصانة القضاة ويضع حدا لتدخلات وزارة العدل في شئون القضاء، وإلغاء كافة صور القضاء الاستثنائي، فضلا عن تمكين القضاة من الإشراف الكامل على الانتخابات العامة
Share this Post