عن فجوة الدماء التي تتسع بينكم وبين المصريين
السيد باراك أوباما
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
تحية واحتراما .. وبعد؛
في مثل هذه الأيام منذ ثلاثة أعوام أتيح لي شرف الحوار معكم في البيت الأبيض ضمن وفد ضم نحو 50 من المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم. كنت أحد ثلاثة حقوقيين طلب منهم مسبقا أن يعدوا مداخلة شفوية يختارونها، ليطرحونها خلال الـ40 دقيقة التي شاركتم فيها ، في الاجتماع الذي تواصل مع مستشاريكم لنحو ساعة ونصف.
عندما جاء دوري، دعوتكم لملاحظة مدى الفجوة الهائلة بين مضامين خطابكم الشهير الذي وجهتموه إلى العالم العربي والإسلامي من القاهرة في يونيو 2009، وبين واقع السياسة الأمريكية وقت الحوار معكم في فبراير 2010. قلت لكم حينذاك، أن الفجوة أكبر كثيرا من تلك المسافة الزمنية، فرسالتكم من القاهرة في يونيو 2009 كانت وعدا بالارتباط مع الشعوب في المنطقة والعمل إلى جانبها، بينما واقع السياسة الأمريكية الفعلي بعد ثمانية شهور، هو العمل مع الأنظمة وإدارة الظهر للشعوب. في هذا السياق اكتفيت بإعطاء ثلاثة أمثلة، تتعلق بفلسطين واليمن ومصر.
حينذاك قاطعتني باسما بالقول، “إنني رغم كوني ضيفا على البيت الأبيض، فإنني أنتقد الرئيس في حضوره! فرددت مقترحا أن تساعدنا في الجلوس إلى الرؤساء العرب لتعرف كيف سيجري نقدهم، فانفجرت القاعة كلها بالضحك!
في حديث لاحق بعد الثورة مع مستشارتكم الرائعة لحقوق الإنسان سامنثا باور، قلت لها لقد آن أوان “خطاب القاهرة الثاني”.
بعد مرور ثلاث سنوات يقول الكُتَّاب عادة لقد “جرت مياه كثيرة في النهر”، ولكن حقيقة الأمر أن ما جرى ويجري في النهر في مصر كل يوم، هو دماء غزيرة لشباب آل على نفسه ألا يواصل الحياة ما لم تكن جديرة بأن توصف بأنها حياة. اعتاد الإنسان أن يشرع في كتابة وصيته في عمر الستين أو السبعين، أو إذا كان مريضا في الخمسين. لكن الشباب المصري يكتب الآن وصيته في العشرينيات من العمر! لا لكي يورثوا شيئا ما لأقاربهم، فأغلبهم لا يملكون شيئا ماديا ذي قيمة باستثناء دمائهم وحياتهم وحبهم اللا محدود للحياة الجديرة بهذا الاسم. ولكنهم يكتبون في وصيتهم كيف يودون أن تكون جنازاتهم؟ من أي ميدان تخرج؟ من أي شوارع تمر؟ أية هتافات ترتفع؟ أية شعارات تظلل الجنازة؟ إنهم يخططون لجنازاتهم كما يخطط كل شاب لحفل زفافه!
ليس آخرهم محمد حسين قرني (23 عاما) -أدمن صفحة “إخوان كاذبون” على فيس بوك- بطلقات رصاص في الرقبة والصدر في أول فبراير في أحد الشوارع الجانبية القريبة من القصر الجمهوري “الاتحادية”. لقد صار محيط هذا القصر منذ ديسمبر الماضي موقعا لتعذيب المتظاهرين على أبوابه بواسطة أنصار حزب رئيس الجمهورية، أو سحلهم بواسطة قوات الأمن في مشاهد أذيعت على العالم عبر القنوات الفضائية، أو اغتيالهم بطلقات في أماكن قاتلة. مثلما حدث أيضا مع الصحفي المعارض محمد الحسيني أبو ضيف في 12 ديسمبر بطلق ناري في الرأس أمام “الاتحادية”، وعمرو سعد (19 عاما) برصاصة في الرأس أيضا أمام “الاتحادية” في أول فبراير. وقبلهم جابر صلاح “جيكا” (17 عاما) -أدمن صفحة “معا ضد الإخوان المسلمون” على فيس بوك- بطلقة خرطوش في الرأس في ميدان التحرير في 20 نوفمبر. بينما ظل مهند سمير (20 عاما) عضو حركة “6 أبريل” يصارع الموت، بعد أن أصيب بطلقة خرطوش في رأسه في 31 ديسمبر، وأفاق بعد غيبوبة استمرت عدة أيام.
بالتوازي مع أعمال القتل والاعتقال المتواترة منذ ديسمبر الماضي، تتواتر تصريحات الإدارة الأمريكية التي تكاد تقتصر على إدانة رد الفعل العنيف المضاد. وكأن نجاح مرسي في إلزام “حماس” بوقف إطلاق النار على الإسرائيليين، هو ثمن التسامح مع فتح النار على المصريين!
عرف العالم جيدا كيف يتم استخدام الاغتصاب الجنسي سلاحا للردع في الحروب، ربما كان أبرزها في البوسنة والهرسك، ودارفور. ولكن الاغتصاب يجري الآن استخدامه كسلاح سياسي لردع الخصوم في أشهر ميدان للاحتجاج السياسي في العالم، ميدان التحرير. وفقا لشهادات متعددة خلال الأسابيع الأخيرة، فإن الأمر يختلف تماما عن التحرش الجنسي التقليدي الذي تعرفه مصر منذ عدة سنوات. تقول بعض الضحايا –مثلما تم توثيقه بالفيديو- أن عملية الانتزاع الجماعي التدريجي للضحية من المظاهرة تمهيدا لاغتصابها بعيدا، تتم بشكل جماعي منظم، يبدو أنه قد تم التدريب عليه جيدا، وأن ملامح وجوه المغتصبين جامدة باهتة، لا تظهر أي علامات بالانفعال أو شبهة الاشتهاء الجنسي. إنهم يبدون كما لو كانوا في مهمة “مقدسة”، ربما يؤمنون أنها مهمة “وطنية” أو “دينية”! الهدف أو الرسالة المتكررة التي تدركها كل فريسة دون التباس، هى الإذلال وتحطيم إرادتها السياسية، من خلال الإهانة العميقة التي تتلقاها، سواء باكتمال الاغتصاب، أو بالعبث العنيف بأعضائها الجنسية، أو على الأقل بتمزيق ملابسها تماما، إذا أفلتت منهم، أو بتوجيه سلاح حاد إلى مهبلها، أدى في بعض الحالات لإزالة الرحم. في هذا السياق –السياسي لا الجنسي- يمكن فهم لماذا حاولت هذه الفرق المنظمة اغتصاب سيدة معروفة سياسيا في نحو السبعين من عمرها، أو التحرش الجنسي ببعض الرجال أيضا!
سيدي الرئيس؛
عندما تحدثت معك في 2010 –وتدخل بالرد في ذلك الجزء من الحوار مستشارك حينذاك دينيس روس- كنت أتساءل عن لماذا تنتقد الإدارة الأمريكية الممارسات القمعية في إيران، بينما تصمت عندما تقوم بعض النظم العربية بنفس الممارسات؟ لا أكتب إليك لتفعل ذلك الآن، ولا لأطلب مناشدة الرئيس مرسي رعاية “وقف إطلاق النار” على المصريين على النحو الذي ألزم به “حركة حماس” تجاه الإسرائيليين، والذي لا تمل إدارتكم تكرار التعبير عن الانبهار به! ولا لكي ترسل قواتكم المحمولة جوا لحماية المحتجين سياسيا في مصر، ولا لكي توقف أو تجمد أو تقلل المعونة العسكرية أو الاقتصادية لبلادي، أو حتى تفرض شروط عليها. إن طلبي متواضع للغاية، وهو أن يكف المتحدثون باسم إدارتك وكبار المسئولين فيها عن التعليق على التطورات في مصر. إن هذا لا شك سيوفر وقتهم وجهدهم، ولكن الأهم أنه قد يساعد على توفير بعض الدماء التي لا يتوقف نزيفها في مصر منذ عامين، عقابا للمصريين على الثورة.
سيدي الرئيس؛
إن التصريحات المتوالية التي تصدر عن إدارتكم في الشهور الماضية، هى في مجملها لوما للمحتجين وللضحايا، ومباركة للقتلة. وهى يمكن تلخيصها في أربع عبارات متكررة، “مصر تشهد عملية ديمقراطية حقيقية وواسعة النطاق!” “على المحتجين عدم ممارسة العنف!” “على الحكومة والأمن ضبط النفس في مواجهة عنف الاحتجاج!” “على المعارضة الانخراط في حوار وطني دون شروط!” أو بمعنى أصح الذهاب لالتقاط صور تذكارية مع رئيس الجمهورية.
هل هى مجرد مصادفة، أنها ذات مفردات الخطاب السياسي للنظام التسلطي الجديد في مصر وحزبه ولكن بالعربية؟ لكن عندما تأتي هذه المباركة للقتل من أكبر دولة في العالم، وأكثرها قدرة سياسيا على التأثير سلبا أو إيجابا في سياسات مصر والمنطقة، فضلا عن أنها أكبر مانح وداعم مادي للنظم الحاكمة في مصر خلال 35 عاما، فإن هذه التصريحات تصير طلقات إضافية في بنادق الاغتيال، ومظلة حماية سياسية لمرتكبي جرائم القتل والتعذيب والسحل والاغتصاب!
عندما التقيت في القاهرة في ديسمبر الماضي أحد الشخصيات النادرة في إدارتكم التي تحركها دوافع حقوق الإنسان –وهو مايكل بوزنر مساعد وزيرة الخارجية لحقوق الإنسان- فإنني اقترحت عليه أن يطلب من المتحدثين باسم الإدارة ذات الطلب المتواضع، طالما لا يستطيعون أن ينطقوا بحقيقة ما يجري في مصر.
سيدي الرئيس؛
منذ أيام احتفل المصريون مؤخرا بالذكرى الثانية لثورتهم، “واحتفل” معهم نظامها الحاكم بطريقته الخاصة، بإعادة تجسيد كل مشاهد العنف والقسوة التي عرفها المصريون خلال أيام الثورة الثمانية عشر، ولكن مضافا إليها الاغتصاب الجماعي للنساء في ميدان التحرير، وللرجال في معسكرات الأمن المركزي! خلال أسبوع واحد سقط أكثر من 60 قتيلا في عدة محافظات وجرت عشرات حالات الاغتصاب والتحرش والقبض على مئات آخرين وتعذيبهم، واختطاف عدد غير محدد بعد، وعندما ظهر أحدهم مؤخرا في إحدى المستشفيات بعد اختفاءه وتعذيبه بطريقة وحشية، سرعان ما فارق الحياة .. مرة أخرى عمره 23 عاما، واسمه محمد الجندي.
سيدي الرئيس؛
أخشى أن الفجوة التي أشرت إليها في الحوار معكم منذ ثلاث سنوات تمتلئ الآن بالدماء. إن مزيدا من تصريحات المباركة الأمريكية نتيجتها المنطقية، هى نزف مزيد من دماء المصريين قتلا وسحلا واغتصابا وتعذيبا. من فضلكم اطلبوا من مسئولي إدارتكم أن يصمتوا قليلا، على الأقل ليمنحونا الوقت الكافي لدفن ضحايانا ومواساة أسرهم، والعلاج النفسي لضحايا الاغتصاب والتعذيب، والبحث عن المخطوفين، ومراجعة وصايا الموجة الجديدة من الشباب الذين يخططون لجنازاتهم.
بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
نشر بجريدة الشروق عدد 1471 – 11 فبراير 2013
Share this Post