عبر عدد من رجال القانون والسياسة ونشطاء حقوق الإنسان في مصر عن قلقهم إزاء تكرار الأحداث الطائفية في البلاد في الفترة الأخيرة، محملين الحكومات المتوالية في مصر منذ السبعينات وبعض الجماعات السياسية المسؤولية الأكبر عن تفاقم تلك الظاهرة ومحذرين في الوقت نفسه من محاولات تستهدف العودة بدول المنطقة وفي مقدمتها مصر إلي عصر ما قبل الدولة القومية الحديثة، وطالبوا في ندوة نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في إطار صالون بن رشد تحت عنوان “مستقبل الأقباط في مصر.. في ضوء الأحداث الطائفية المتوالية” طالبوا بتكاتف جماعي لتصحيح الأوضاع الحالية في مواجهة الخطر الذي يتهدد المجتمع المصري.
وانتقد بهي الدين حسن مدير المركز ما وصفه بتجاهل مؤسسات الدولة للتوصيات الصادرة عن مؤسسات المجتمع والدولة بشأن سبل مواجهة الأحداث الطائفية، مشيرا في ذلك إلي توصيات صدرت عن لجنة تقصي حقائق برلمانية في عام 1972 برئاسة الوزير سالم جمال العطيفي ولقيت قبولا من مختلف الأطراف المجتمعية لكنها لم تجد طريقها للتنفيذ علي أرض الواقع بفعل التجاهل الحكومي لها، معتبرا أن ذلك التجاهل يثير التساؤل بشأن موقف الحكومة من هذه الأحداث ومدي رغبتها في مواجهتها بشكل حقيقي أو تركها لتتفاقم وشغل المجتمع بها عن مقتضيات الإصلاح السياسي.
أشار بهي إلي أن مسلسل الحوادث الطائفية التي تشهدها البلاد منذ نحو 35 عاماً وحتى الآن، تشير إلي أن هناك خيطاً رفيعاً يربط بين بعضها البعض، لافتا إلي أن الفترة الأخيرة شهدت ظاهرة جديدة تمثلت في أن بعض المواطنين بدأ يأخذ علي عاتقه مهمة إنفاذ القانون بعيدا عن أجهزة الدولة.
الهوية المنفردة
كذلك رأي الباحث الدكتور سمير مرقص رئيس مجلس أمناء مؤسسة “المصري للمواطنة والحوار” أن فترة السبعينات والثمانينات شهدت مناخا عاما سيئا أفرز تعاملا علي أساس “الهوية الدينية المنفردة” لكل جماعة في المجتمع، حتى صار كل طرف يوظف قوته في مواجهة الآخر، كما أن كل طرف يسعى لصياغة ذاكرة تاريخية منعزلة عن الأخر، مشيرا إلي أن السنوات الأخيرة تحولت فيها كل جماعة إلي أن تطلب لنفسها امتيازا دون الآخرين، محملا جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية عما وصفه بوضع شروط وقيود علي الحياة السياسية ومن بينها القول بقبول الحضور القبطي في الشأن العام ولكن في غير مناصب الولاية العامة.
ولفت مرقص إلي أن المناخ العام في مصر مطلع القرن العشرين كان قادرا علي تصحيح المشكلات ومواجهة الاحتقانات فيما شهد ذلك المناخ في الفترات التالية وخاصة في السبعينات النظر إلي الجماعة القبطية باعتبارها كتلة واحدة “انتخابية” وقال أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تعامل مع المسألة القبطية بذراعين حيث استوزر عددا من الشخصيات القبطية كما ظهر في عهده مثقفون أقباط كان لهم حضورهم في المشهد المصري في الستينات.
حذر مرقص من استمرار مناخ التوتر الحالي في المجتمع المصري خاصة في ظل عدم قيام الدولة بواجبها في حماية المجال العام وجعله حقا لكل مواطنيها وقال أن استمرار ذلك الوضع يضر باستقرار المجتمع المصري، مؤكدا أنه ليس من حق أحد وضع شروط أو قيود علي المجال العام الذي يجب أن يكون حر الحركة، مؤكدا علي ضرورة السعي لأن يكون” الاختلاف ” رصيدا للوطن والجماعة الوطنية وليس أداة للتناحر وقال أنه إذا استمر الوضع علي ما هو عليه فإن البديل سيكون مرعبا وسوف يكون هناك خطر علي المجتمع وتحول بعض فئاته إلي ما وصفه بـ”العزلة الناعمة”.
فيما أكد الدكتور منير مجاهد أحد مؤسسي حركة “مصريون ضد التمييز الديني” أن هناك مظاهر متعددة للتمييز ضد المسيحيين في مصر فيما يتعلق بالتعليم والأعلام والوظائف العامة، مشيرا إلي أن هناك أيضا تمييز قانوني ودستوري ضد المسيحيين وقال أن المادة الثانية من الدستور توفر غطاء دستوريا للتفرقة بين المواطنين علي أساس الدين، وتحمل رسالة مباشرة بأن هناك درجات للمواطنين، راصدا تزايد استناد المحكمة الإدارية والمحاكم الشخصية إلي هذه المادة لتقنين انتهاك علي حد تعبيره ( حقوق غير المسلمين).
وانتقد مجاهد عدم وجود تشريع يجرم التمييز الديني أو أي أنواع التمييز، وقال أن إنشاء دور العبادة للمسيحيين لازال يحكمها الخط الهمايوني رغم بعض التحسن في الفترة الأخيرة، مشيرا إلي وجود تمييز ضد المسيحيين في التعليم والإعلام والتوظيف، ومعتبرا أن هذا التمييز ينتج أجيالا أكثر تعصبا وتطرفا، لكن مجاهد بدا متفائلا إزاء ما وصفه ببدايات التغيير في المجتمع المصري، مشيرا في ذلك إلي تحركات الفئات المختلفة في الأعوام الثلاثة الأخيرة للمطالبة بحقوقها، وتحقيق بعض هذه الفئات انتصارات في حركتها المطلبية.
فيما حذر أستاذ القانون العام بجامعة الزقازيق الدكتور محمد نور فرحات مما وصفه بالمحاولات التي تواجهها دول المنطقة منذ عقود للارتداد بها إلي عصر ما قبل الدولة القومية الحديثة، محملا الرئيس الراحل أنور السادات المسؤولية عما وصفه بإعادة فكرة “الدولة غير المكترثة سوي بجباية الضرائب”، والتي كانت سائدة في العصر العثماني إضافة إلي فرض فكرة الثقافة الدينية للجماعة الاجتماعية في مصر، ومساندة سيطرة الجماعات الدينية علي المؤسسات المدنية كالجامعات، ما أدي إلي سيادة الخطاب الديني والبحث في التراث السلفي عما يكرس قيم التعصب والاستبعاد دون التسامح والتعايش.
اعتبر الدكتور فرحات أن المسألة القانونية ليست أكثر المسائل أهمية في قضية التوتر المجتمعي والذي تتمثل إحدى تجلياته في حوادث العنف الطائفي، وقال أن المجتمع السوي والقوي الناضج تكون فيه الدولة قوية ومحايدة بين مختلف الفئات وقادرة علي فرض هذا الحياد بقوة القانون وتحقيق مبدأ المساواة الحقيقية – وليست المظهرية (أمام القانون)، مشيرا إلي أن سياسات السادات أفرزت تسلطا دينيا علي منظمات هي بطبيعتها مدنية كالجامعات، مضيفا أن هناك قوي ذات مصلحة في سيادة الخطاب الديني استغلت ذلك الوضع وسعت إلي إلباسه طابعا قانونيا وتكريسه وأن المجتمع المصري شهد نتيجة لذلك الأمر عملية “تديين سلبي” ورد لكل قضايا المجتمع إلي الدين.
ورغم تأكيد فرحات وجود مشكلات تواجه الأقباط في مصر إلا أنه دعا مختلف الأطراف إلي الابتعاد عما وصفه بمنهج صب الزيت علي نار تلك المشكلات، منعا لتكرار النموذج اللبناني والعراقي علي أرض مصر، وقال فرحات أن الفكر المتشدد موجود لدي الطرفين المسلم والمسيحي في المجتمع المصري مشيرا إلى أن الكنيسة تقاوم وضع قانون مدني ومتحضر للأحوال الشخصية بالنسبة للأقباط يحترم حقوق الإنسان، مؤكدا علي ضرورة وضع برنامج عمل تشارك فيه الدولة والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني لمواجهة المشكلات الطائفية.
حكومات رخوة
من جانبه اعتبر القيادي بجماعة الإخوان المسلمين وعضو مجلس الشعب السابق الدكتور جمال حشمت أن قضايا الأقباط تمثل جزءا من قضايا المجتمع المصري ككل محذرا من استخدام المعيار الطائفي في الحديث عن تلك القضايا، نافيا عن جماعته المسؤولية عن أي أحداث طائفية جرت بالبلاد ومحملا كامل المسؤولية لما وصفه بالحكومات الرخوة التي تدير البلاد وقال أن هذه الممارسات دفعت المسيحيين إلي الانغلاق علي أنفسهم واعتبار الكنيسة متحدثا رسميا وحيدا باسمهم، مضيفا أن الفقه المعمول به في مصر كان متقدما عن غيره من البلاد المجاورة دائما فيما يخص التعامل مع دور العبادة، منتقدا دعوة البعض لإلغاء المادة الثانية من الدستور والتي تنص علي اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع في البلاد و مؤكدا أن عقلاء المسيحيين أنفسهم يتمسكون باستمرار هذه المادة في الدست
Share this Post