مسعود الرمضاني
تُعرّف الشعبوية، رغم ضبابية المصطلح وافتقاره الى بنية مفهومية دقيقة ،بانّها شكل من اشكال «انتقام» الشعب من كل الهياكل الوسيطة، أكانت هذه الهياكل احزابا ام منظمات مدنية أو نقابية وذلك لتقصير أو تهاون هذه الهياكل في الدفاع عن شواغل المواطنين، حتى في أعرق الديمقراطيات، ويرى عديد الخبراء ان السياسة النيوليبرالية العالمية الجديدة قد اضعفت الديمقراطية وبددت مصداقيتها وشككت في قدرتها على حل الاشكاليات الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت بحكم سيطرة القطاع المالي على كل مجالات الانتاج، واتساع الهوة بين الطبقات الشعبية والاقليات الثرية، وضمور الطبقات الوسطى، صمام أمان المجتمعات ضد كل الاضطرابات…
وأمام هذه التحديات العابرة للاقتصاديات الوطنية تعجز الاحزاب التقليدية، يسارها ويمينها ووسطها، عن مواجهة هذه المشاكل وتتحول حملاتها الانتخابية الى مهرجانات موسمية دون افق جدّي وتتحول المنظمات المدنية الى كائنات محدودة الجدوى والفاعلية ويتقلّص الدور التقليدي للنقابات العمالية امام قوّة رأس المال وسيطرته. لذا يجد الخطاب الشعبوي «التوحيدي» الظروف المناسبة لملء الفراغ، مستعملا التراث الرمزي والاخلاقي المشترك بين كل افراد المجتمع، بقطع النظر عن اختلافاته وتناقضاته وتثار العواطف الجمعية والدينية، وتغيب كل الفوارق الطبقية والاجتماعية، أمام ارادة الشعب بكليّته…
هنا يبرز القائد الوطني، الملهم و«النقي» و«غير الملوّث» بالانخراط في أي مؤسسة حزبية أو مدنية ليقدّم خطابا عاطفيًا مباشرًا ودون وسائط اعلامية أو مؤسساتية الى «شعبه» ، الشعب المتماهي والمنسجم، والقوي «الذي يستطيع أن يفرض إرادته على النخب الحاكمة الفاسدة» على حدّ تعبير دونالد ترامب سنة 2016.
ولفهم ماهية الخطاب الاستعراضي الذي يقدّمه القائد الشعبوي ومدى نجاحه في استقطاب الناس، لابد من استحضار ما كتبه الطبيب والباحث الفرنسي غوستاف لوبون، Gustave Lebon، عن سيكولوجية الجماهير وعلاقتها بالعواطف والحقيقة، حيث يرى ان الجماهير تفضّل أحيانًا الأوهام وتستعيض عن الحقيقة بالحلم، لذا فإن الأفكار، مهما كانت هامّة، فإنها لن تكون ناجعة وفاعلة إلا إذا تحوّلت إلى عواطف…
الانتقال الديمقراطي الهش وصعود قيس سعيد:
يرى الباحث في علم الاجتماع فؤاد الغربالي أن الديمقراطية «صيرورة غير مكتملة» في حاجة دائمة لتقوية عودها بحل الاشكاليات التي تواجه المجتمع ابتداء من ظروف حياة المواطن اليومية ووصولا الى الحريات العامة والخاصة، ومن مخاض هذه الهشاشة الدائمة للديمقراطية تأتي الشعبوية، لتنتقم من كل المؤسسات والقيم التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي…
فما بالك بهشاشة انتقال متعثر في تونس! بعد حوالي تسع سنوات من الثورة، تسلل السيد قيس سعيد، الأستاذ الجامعي غير المنتمي لأي حزب وسط ركام السياسة الفوضوي، الذي لم يترك من شعارات الثورة ومبادئها غير هامش من الحرية وتداول على السلطة وحكومات سرعان ما تأتي وتذهب دون اضافة تذكر، ودستور متعالي لا يمكن تطبيقه في واقع هش ومريض، فتعمّقت الازمة وعمّت الاحتجاجات وسيطرت حالة من الاحباط على الشباب، لذلك وجدت شعاراته صدى: فهو يتقاسم مع الطبقات الشعبية كراهية الاحزاب والنخب وكل الهياكل الوسيطة، بما فيها وسائل الاعلام التي ساهمت بقدر كبير في بروز قيس سعيد نفسه… كما يتقاسم إرهاصات المحافظة مع شعب لم يحسم أمره مع الحداثة بكل مبادئها: فهو يرفض الأقليات الجنسية والمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث من منطلق العدل والإنصاف في الاسلام ويدافع عن عقوبة الإعدام ضد كل قاتل أو مغتصب…
ورأى العديد من الناس أن ما اتخذه الرئيس يوم 25 جويلية 2021 كان «فرصة للإنقاذ» بعد أن وصلت الأزمة مداها وانسدت تقريبا كل فرص الاصلاح وسط أوضاع مالية واقتصادية وسياسية وصحية انهكت البلاد وباتت تونس على أبواب افلاس تام على كل المستويات…
ورغم تشنج خطاباته وتكرار تهديداته وحواراته المنفردة و غياب الدقة في معلوماته أحيانًا، إلا أن المواطن العادي رأى فيه شئيا من «المهدي المنتظر» الذي سيحارب الفساد المستشري في البلاد وينشر العدل ويؤسس لنظام حكم جديد، قوامه التواصل المباشر مع الشعب والكادحين المفقرين دون وسائط ويعوّض عن سنوات التيه والزيغ عن الثورة «التي أختطفت» من الشعب بالعودة الى شعاراتها النقيّة الاولى و بعدالة تفتك المال من المفسدين وتعطيها للفقراء، خاصة وأن الرئيس وعد بان تفيض خزائن الدولة بالاموال، بعد أن «تداعى أشقاء تونس» لشد أزرنا ومساعدتنا…
«الميّة تكذّب الغطاس»
بعد حوالي ثلاثة اشهر، جاءت اختبارات حقيقية تبيّن صعوبة الواقع وارهاصاته مقارنة بالشعارات، وتظهر أن الحكم، خاصة إذا كان فرديًا، اشد تعقيدا من حسن النوايا وقد ظهر ذلك في مناسبتين على الاقل:
- العلاقة مع صندوق النقد الدولي: بعد اسابيع من خطاب «سيادي» يسخر من المؤسسات المالية الدولية ويشكك في التصنيف الائتماني السلبي لتونس، الذي جاء نتيجة لغياب الحوكمة وسوء ادارة المالية العمومية وغياب الاصلاحات الضرورية، تلتفت الحكومة لصندوق النقد الدولي ،ملتمسة المساعدة لاستكمال الميزانية وتسديد النفقات العمومية، ولن يكون ذلك ممكنا الا بعد مطالبة تونس بتطبيق اصلاحات موجعة، ستجد معارضة كبيرة من الاطراف الاجتماعية، وهنا يتلاشى الخطاب السيادي ليترك مكانه لمرارة الازمة بكل تعقيداتها، هذا اذا ما تخلى الصندوق عن مطالبته بالاصطلاحات السياسية…
- نفايات مدينة عقارب: تقع مدينة عقارب غربي مدينة صفاقس، إحدى أكبر المدن الصناعية وتمتاز عقارب بالصناعة المتنوعة حيث تضم منطقتها الصناعية أكثر من 20 هكتارًا وقامت احتجاجات في المدينة الصغيرة بسبب النفايات المتأتية من مرجين الزيت وتصريف مياه التطهير والمياه الصناعية ومكب تجميع النفايات المنزلية التي تتجاوز 600 طنّا يوميًا. وفي جويلية 2019، قضت محكمة الناحية بعقارب، إثر شكاية تقدّم بها المواطنون، بالوقف الفوري لاستعمال المكب «نظرا لما يمثله من مخاطر صحية وبيئية على المواطنين» وذلك بناء على احكام الدستور الذي يؤكد على توفير محيط سليم للعيش .
اليوم تواجه السلطة غضب المواطنين وقرار المحكمة بفرض فتح مكب النفايات باستعمال القوة الامنية مما تسبب في مواجهات يومية، خلفت ضحية،تناقضت الروايات حول أسباب الوفاة.
واليوم، كذلك، يهتز شعار الشعب يريد أمام تحديات الواقع واكراهات الحكم، مما يعني أن هناك بون شاسع بين سهولة الخطاب ومواجهة التحديات، اذ لابد ان يدرك السيد قيس سعيد، وهو الذي انفرد بالسلطة، أن أحد أسباب الرفض الشعبي لكل من حكموا قبله هو غياب الخطاب الواقعي الذي يتجاوز الحملات الانتخابية وتحشيد الانصار الى إيجاد الحلول الممكنة والمقنعة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة لشعب كاد أن ييأس نهائيا من الوعود، وهذا الامر يتجاوز امكانيات الاشخاص، مهما صدقت نواياهم.
Share this Post