عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية مؤتمرًا إقليميًا بعنوان “العدالة الانتقالية في مصر والعالم العربي – التحديات والفرص”، خلال الفترة 30 و31 أكتوبر بمشاركة خبراء وحقوقيون وقضاة من دول مختلفة.
بحث المؤتمر إشكاليات تطبيق منهج العدالة الانتقالية في الدول التي شهدت ثورات أطاحت برؤساء الأنظمة السابقة، متناولاً تجارب دول مختلفة مرت بظروف مشابهة، للاستفادة من تلك الخبرات في مواجهة ما تشهده المنطقة العربية من تحديات في هذا الصدد، كما تناول المؤتمر سبل معالجة الجرائم السابقة بالتركيز على فحص وإصلاح مؤسسات الدولة وإصلاح الأجهزة الأمنية والإصلاح القضائي ونظام التعويضات. ناقش المؤتمر أيضًا إشكالية محاكمة رموز النظم السابقة بين المحاكم الوطنية والدولية مع التركيز على كل من ليبيا والسودان، بالإضافة إلى تقييم مسار المرحلة الانتقالية في مصر وتونس ومصير العدالة الانتقالية ومحاسبة النظام السابق في كلا البلدين.
افتتح المؤتمر المستشار “حسام الغرياني” رئيس محكمة النقض المصرية ورئيس المجلس الأعلى للقضاء موضحًا أن هذا المؤتمر يُقام في ظل ظروف استثنائية، حيث تواجه البلاد قوى الثورة الحديثة التي تريد أن تعبر بمصر إلى عهد جديد، وقوى قديمة ترغب في العودة مستترة، كي تعود بالبلاد إلى الوراء. كما أفصح الغرياني عن أن القضاء يحمل أعباءً شديدة في محاكمته رموز النظام السابق، لان الشعب يريد أن يحكم القضاء بالأحكام نفسها التي أطلقها الثوار في الميادين العامة، فهم لن يرتضوا بغير حكمهم حكمًا.
ومن جانبها قالت “لوسي فييرسما” الممثل عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان، “لا نقدم عفو لمرتكبي جرائم حقوق الإنسان، فمهمتنا هي حماية واستعادة كرامة العدد الهائل من الأشخاص التي تم انتهاك حقوقهم، وأن الأمم المتحدة تحرص أن يتم هذا بشكل آمن وسريع، واضعة في الاعتبار اختلال التوازنات في بناء المجتمع. وأضافت “نضع أيضًا في اعتبارنا أن العدالة الاجتماعية يجب أن تُعلي من شأن القانون في البلاد”، كما شددت فييرسما على ضرورة تنفيذ العدالة الانتقالية، لأنها تعمل على تأكيد عملية المصالحة التي من شأنها إعادة الثقة في الدولة نفسها وبين المواطنين، مؤكدة أن هذا الجزء أصعب مراحل العدالة الانتقالية.
“ديفيد تولبيرت” رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية، أقر أهمية العدالة الانتقالية وأهمية أن تمر بها مصر والدول العربية، آملاً أن تكون ناجحة وآمنة، كما أوضح أيضًا الفرق بين العدالة الجنائية والعدالة الانتقالية، مؤكدًا أن الأخيرة عامة جدا وشاملة، أما الأولى فهي جزء من العدالة الانتقالية، وان العدالة الجنائية لها مزايا مثل معرفة الحقيقة، وإدانة مرتكبي الانتهاكات، فلذا أكد على أن يكون هناك برامج لتنفيذ تلك العدالة الجنائية، بالإضافة إلى ضرورة وجود إصلاحات في المؤسسات المعنية بهذا الشأن مثل تلك التي تقوم على التحقيقات، فهذه الإصلاحات تعمل على ضمان عدم ارتكاب تلك الجرائم مرة أخرى، الأمر الذي يحتاج مساعدة المجتمع بأن يستمع إلى السلطة القضائية، ويحترم قراراتها والاستفادة من الخبرات التي مرت بها بعض الدول في هذا الشأن.
استمع المؤتمر لشهادات اثنين من أهالي ضحايا الثورة فى مصر وتونس، من جانبها أوضحت “فيفيان مجدي” خطيبة الشهيد مايكل مسعد، أن ما جاء بها إلى هذا المؤتمر، هو الوعد الذي قطعته على نفسها أنها لن تترك حق خطيبها الذي فقدته تحت عجلات مدرعة الجيش أثناء أحداث 9 أكتوبر والمعروفة إعلاميًا “بأحداث ماسبيرو” وحق أكثر من 27 شهيد لاقوا حتفهم فى هذه الأحداث، متعهدة أن تسلك كافة السبل للحصول على حقهم، مستنكرة أن يتكرر المشهد بعد 9 اشهر من ثورة من المفترض أن حاميها كان الجيش.
“الشعوب هي حجر الأساس في عملية التغيير في العالم العربي، ودماء الشهداء لم تكن سوى قربان لحرية هذه البلاد” هكذا بدأت “لمياء فرحاني” شقيقة الشهيد التونسي “أنيس فرحاني” ورئيس جمعية عائلات شهداء ومصابي الثورة التونسية شهادتها، وأضافت لمياء منتقدة الحكومة التونسية أنه على الرغم من مرور تسعة أشهر من الثورة، إلا أن الحكومة لم تحرك ساكنًا تجاه ملف الشهداء، وإنما عملت على زيادة أجور رجال الأمن رغم كل ما حدث، ولم تعمل على تكريم الشهداء وتقديم العزاء لذويهم في حين أنها كرمت رجال الرياضة ورجال الفن، ولم تعمل على محاسبة الجناة. لمياء طالبت بضرورة إصلاح المنظومة الأمنية، والاعتذار الرسمي لأهالي الشهداء الذي يعد تعويضًا معنويًا عما اقترفته تجاه هؤلاء الشهداء كخطوة أولية لتحقيق العدالة الانتقالية فى تونس.
الاستماع لشهادات أهالي الشهداء وما أحدثه هذا من ألم فى نفوس الحاضرين، فتح المجال للحديث عن فكرة جبر الضرر والتعويض كخطوة أولية على طريق العدالة. أكد المؤتمر على أهمية أن يتم تعويض أهالي الشهداء، وأن يكون جبر الضرر فعالاً وسريعًا، ولكن لا يمكن أن نختزل هذا التعويض في الأموال فقط، وإنما يجب تقديم الاعتذارات الرسمية، وإقامة النصب التذكارية، ولا يمكن أن تساوي بين من قتلوا في المظاهرات والخارجين على القانون كما جاء على حد قول “روبين كارنزا” مدير برنامج التعويضات بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية، وفي السياق ذاته أكدت “ياسمين سوكا” المفوضة السابقة بلجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب أفريقيا، على أنه لا يمكن أن نقتطع فكرة التعويضات عن المجتمع.
المساءلة والمحاسبة هي الخطوة التالية فهي أيضًا جزء من التعويضات ،فى هذا الصدد أكد “مارسي مورسكي” مستشار دائرة البرامج بالمركز الدولي للعدالة الانتقالية، على ضرورة الكشف عن الحقيقة وإدانة من ارتكب الجرائم في حق الشعب، مشيرًا إلى أن ذلك يمكن أن يتم من خلال لجان الحقيقة لتحديد الجناة، وتقديمهم للقضاء الذي من شأنه أن يحقق العدل مثلما تم في أمريكا اللاتينية، وأن تُستخدم تلك اللجان كأداة قانونية كما في جواتيمالا والسلفادور لاسيما أن الدولة لم تعترف أبدًا بارتكابها للجرائم. هذا من شأنه أن يُنشئ مجتمع عادل يلعب فيه القانون الجنائي دور رئيس، كما حدث خلال محاكمة “تشارلز تايلورز” رئيس ليبيريا عن جرائمه في سيراليون، مع الوضع في الاعتبار أنه يمكن أن تواجهنا عدة صعوبات في محاكمة مرتكبي الجرائم، لعدة أسباب منها صعوبة إيجاد دليل لإدانتهم، أو ملاحقتهم إذا ما تم إدانتهم، لكن ما يهم أن تتحقق العدالة وأن نتعامل بمساواة هكذا أوضح المحامي والخبير في القانون الدولي الجنائي “نيك كومجيان”.
وفى هذا السياق شدد “زياد عبد التواب” نائب مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، على أن الإرادة السياسية هي العامل الرئيسي لتحقق العدالة، فمن شأنها أن تخطو بالعدالة الانتقالية إلى النجاح أو الفشل، وأن تُشعر أهالي الشهداء بإمكانية تعويضهم عن طريق محاكمة الجناة، وذلك يتطلب وجود إرادة حقيقية لدى من يدير شئون البلاد في المرحلة الانتقالية، لمحاكمة من ارتكب الجرائم في حق الشعب. وفى هذا الصدد انتقد زياد إدارة الجيش لمحاكمة الرموز السابق واصفا إياها “بالهزلية” بما يعكس عدم وجود إرادة حقيقية في إرساء العدالة، كما أضاف أن الجيش قام بتمرير قوانين سالبة للحريات العامة بشكل تعسفي.
أضاف “عمر الصفراوي” المنسق العام لمجموعة الخمسة والعشرون محامي في تونس، أن هناك تساؤلات كثيرة عن أسباب غياب الإرادة السياسية، والتي تعود إلى تدخل أيادي السلطة التنفيذية في باقي السلطات، مشيرًا إلى أن العمل الأهلي هو الأجدر بأن يتقصى الحقيقة ويحاول كشفها، لذا تم تكوين مجموعة الخمسة وعشرون محام، مؤكدًا على كونها لجان لتتبع الحقيقة وليس لكشفها، لأنها لجان سياسية تكونت إثر قرار سياسي ولذا لن تحقق العدالة، وطالب الصفراوي بمحكمة متخصصة ومستقلة في كل شئ، وقضاة مستقلون يعملون عليها، لأنه لا يمكن أن يتحول القضاء الذي تواجد وتورط في جرائم بن علي بين عشية وضحاها إلى متتبع لجرائمه.
أكد المتحدثون في المؤتمر عن أهمية الإصلاح المؤسسي، كشرط أساسي لتحقيق العدالة في المرحلة الانتقالية التي تعقب سقوط الأنظمة كي يشعر بها المواطنون، فأوضح “عبد الخالق فاروق” الخبير في الشئون الاقتصادية والاستراتيجية، كيف تحول الفساد من بيئة صغيرة في المجتمع المصري إلى بيئة كاملة لها من يعملون عليها ويحمونها، وتتجلي في عدة عوامل منها فساد المؤسسة القضائية ومجلس الشعب، فساد المؤسسات الإعلامية، وأجهزة الرقابة الإدارية، فساد وسائل صياغة القوانين الصادرة عن المجلس التشريعي التي تنظم العمل الإداري.
ولكي تعود الثقة بين الدولة ومواطنيها، اتفق الجميع على التحليل الموضوعي للمنظومة الأمنية، لأنها تعد أول الخاسرين في الثورة، والتي باستطاعتها تقويض الثورة وإجهاضها، كما رأى المتحدثون ضرورة تأهيل رجال الأمن وتحويلهم من حماه للنظم السياسية إلى حماية المجتمع، كما أكدوا على ضرورة مشاركة جهاز الأمن في عملية الإصلاح وعدم الاكتفاء بأن يتم إصلاحه فقط.
أوضح “حسام بهجت” أن الجهاز الأمني فى مصر ارتكب سلسلة من الجرائم دون المعاقبة عليها حتى أصبحت وزارة الداخلية تدريجيًا هي المتحكم الرئيسي فى كافة مناحي الحياة. هذا الدور يعود ليلعبه بعد الثورة جهاز المخابرات العامة و بأسلوب أكثر وحشية بعدما تمتع بحصانة خاصة فى ظل المجلس العسكري أشبه بتلك الحصانة التي سبق و تمتع بها رجال الشرطة فى ظل حكم مبارك.
استعرض “رضوان زيادة” مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان، خطوات الإصلاح الأمني على نحو يتمثل فى التطهير، أي أن الأشخاص المسئولين عن جرائم حقوق إنسان يجب عزلهم كي تتم محاسبتهم، وان تتم إجراءات الفحص مع ضمان حماية حقوق الأفراد الخاضعين لتلك الإجراءات في الوقت نفسه، وهذه المسألة بالغة الأهمية لتعزيز شرعية الأجهزة الرسمية واستعادة ثقة الشعوب وترسيخ حكم القانون، أما الخطوة الثانية بحسب زيادة أن يتم إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وذلك عن طريق وضع رجال السلطة التنفيذية تحت مراقبة لجنة الاستخبارات داخل البرلمان، لأن العضو المنتخب له صلاحية أكبر من الشخص المعين، وأن يكون وزير الداخلية مدنيًا، وهذا تأكيدًا على أن السلطة المدنية يجب أن تعلو عن السلطة العسكرية، كما طالب بتدريب رجال الشرطة على كيفية التعامل مع المواطنين وأن يكون هناك إصلاحات في المؤسسات المحققة فى الجرائم، بما يضمن عدم ارتكاب تلك الجرائم مرة أخرى.
انتهى المؤتمر إلى أن آليات ومناهج العدالة الانتقالية لا يمكن أن تعمل بصورة منفصلة عن بعضها البعض، وإنما تُكمل بعضها؛ فعلى سبيل المثال قد يعتبر البعض أن قول الحقيقة دون تعويضات خطوة بلا معنى، أو أن منح تعويضات مادية دون عمليات مكملة لقول الحقيقة والمكاشفة والمحاسبة سيكون بنظر الضحايا محاولة لشراء صمتهم. إن محاولات الوصول للمصالحة الوطنية لا يعني تجاهل الحقيقة والتعويض، فالعفو لا يمحو الحقيقة.
Share this Post