بهي الدين حسن[1]
شهد العالم العربي خلال الأعوام الأخيرة تدهورًا غير مسبوق في وضعية حقوق الإنسان، الأمر الذي أفضى إلى كوارث إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، على صعيد عدد القتلى المدنيين واللاجئين والنازحين والمهاجرين. للأسف لا توجد دلائل تشير إلى تغير أبرز مؤشرات هذا التدهور قبل رحيل عام ٢٠١٥، فالعوامل والقوى التي تقف خلف هذا التدهور النوعي باقية. الأمر الذي قد يقود بالتالي إلى تدهور أكبر، ومآس إنسانية أكثر قسوة، وتفكك دول أخرى، وتعاظم المخاطر بصورة غير مسبوقة، تتجاوز نطاق العالم العربي، لتمتد إلى السلم والأمن الدوليين.
«الربيع العربي» ليس سببًا لهذا التدهور المخيف، بل بالأحرى فإن «الربيع العربي» كان آخر محاولة جادة من شعوب المنطقة لقطع الطريق على هذا المسار. لكن عوامل وقوى الهدم كانت أقوى من قوى الإصلاح والتغيير، سواء على الصعيد الوطني أو الإقليمي. بينما فشل المجتمع الدولي في أن يكون على مستوى تعقيد هذه «اللحظة» التاريخية وتحدياتها. لقد أفلتت «الفرصة»، وتدفع وستدفع ـ كل الأطراف ثمنًا باهظًا، مرشحًا للارتفاع بمرور الزمن، إذا ما بقي العجز الوطني والإقليمي والدولي قائمًا.
لا شك أن أهم حدث خلال عام ٢٠١٤، هو التطور النوعي الذي جرى لقوى الإرهاب، وذلك بميلاد أول «دولة» إرهاب في التاريخ. هذا الحدث التاريخي ليس إحدى ثمار «الربيع العربي»، بل بالأحرى ثمرة ١٤ عامًا من الفشل في مكافحة الإرهاب منذ هجمات ١١ سبتمبر، وانتهاج استراتيجية عرجاء وحيدة الجانب، ترتكز فقط على الوسائل الأمنية والعسكرية، وتتجاهل الجذور السياسية والاجتماعية والدينية، وتضحى بحقوق الإنسان. إنها أيضًا ثمرة عقود متواصلة من التدمير المنهجي في عدة دول لمرتكزات الدولة الوطنية الحديثة –التي تأسست في العالم العربي في أوائل القرن الماضي. الأمر الذي أعاد تدريجيًا هذه الدول إلى وضع أقرب إلى صورتها البدائية الأولى. أي مجموعة من القبائل والطوائف الدينية والمجموعات الإثنية المتجاورة، التي جرى إخضاعها بأبشع الوسائل في التاريخ حتى تتعايش مع هيمنة جماعة طائفية و/أو عرقية و/أو سياسية معينة، بما في ذلك ارتكاب أعمال القتل والاغتصاب والتعذيب والسلب والتهجير الجماعي. في غياب نظام قانوني ودستوري يستحق هذا الاسم، ومؤسسات غير فاسدة تسهر على كفالة الحد الأدنى من الإنصاف وعدم التمييز والعدل والعدالة الاجتماعية، وفى مواجهة ممارسات مفرطة في القسوة والظلم القائمين على التمييز وفقًا للهوية الدينية أو الإثنية أو السياسية، أصبحت مجتمعات بكاملها في العراء، لا حول لها ولا قوة، هدفًا لتنكيل جماعي متواصل لا سقف له. بلغ هذا التنكيل في سوريا والعراق أقصاه، وذلك بالقصف الجماعي للمدنيين بالكيماوي أو بالطائرات أو بالمدفعية الثقيلة، وأخيرًا ببراميل البترول المتفجرة. لذا «كفرت» هذه المجتمعات الضحية بالدولة التي وصفوها «بالوطنية»، وصارت أولوياتها هي الإفلات من هذا الجحيم، إن لم يكن بالانتحار أو باللجوء والهروب الفردي، فبالبحث عن «منقذ»، عن المساندة والحماية من خارج «الدولة» التي لا تتجسد إلا في صورة عصابات أمنية/ عسكرية تستبيح كل حياة. لم يعد السؤال من أين يأتي «جودو»؟ المهم أن يأتي، حتى ولو جاء في صورة وهم يُبرد قليلًا من ويلات هذا «الهولوكست». سواء جاء من داخل المنطقة (إيران أو السعودية)، أو من خارجها (الأمم المتحدة أو حلف الأطلنطي)، أو حتى من جماعة إرهابية مثل «القاعدة» أو «داعش». هذا حال سوريا وليبيا العراق والسودان واليمن ولبنان، ودول أخرى على الطريق.
حينما يكتب التاريخ الحقيقي للعالم العربي، فإنه سيرصد كيف عانت هذه الشعوب ويلات المستعمر القديم في النصف الأول من القرن العشرين، ثم حكومات الاستقلال «الوطني» في النصف الثاني منه، ثم عادت تتطلع إلى بعض «المستعمرين» الجدد مع بداية القرن الجديد، من خلال الغزو الأمريكي للعراق وما تداعى حوله من أوهام. ثم أخيرًا، انتقلت قطاعات واسعة من السنة في العراق وسوريا لتجد في تنظيم «القاعدة» أو «داعش» المنقذ من المظالم الهائلة التي تسحقها كل يوم. بينما تتطلع قطاعات من الشيعة في البحرين والسعودية واليمن ولبنان وسوريا والعراق إلى إيران، من أجل إنقاذها من ويلات سحق هويتها، وتتطلع قطاعات أخرى منها –سنية وشيعية– إلى تكريس وضع استعلائي أو تمييزي أو احتكاري للسلطة والثروة والنفوذ على حساب طوائف أو إثنيات أخرى. بينما ما زالت بعض الأقليات الطائفية والإثنية الأضعف، تتطلع إلى المستعمر القديم، أو أي منقذ أو مستعمر آخر ولو جاء من «المريخ». فقدت «الأغلبيات» قبل الأقليات كل أمل في «الإنسانية» قبل رشادة نظم الحكم في بلادها. هذا ليس ثمرة «الربيع العربي»، ولكنه بعض من ثمار حكم النخب الأمنية والعسكرية للعالم العربي المتواصل منذ أكثر من نصف قرن.
في حوار له مع «سى إن إن»، قال عبد الله الثاني ملك الأردن، إن الرئيس السوري بشار الأسد تجنب ضرب «داعش» منذ البداية، بينما واصل ضرب فصائل المعارضة الأخرى الأقل تطرفًا، وكذلك تلك غير الإسلامية. فسر الملك توجهات النظام السوري بالحرص الاستراتيجي على الإبقاء على من يبدو «أسوأ» وأكثر شرًا، الأمر الذى قد يساعد على تخفيف الضغوط الدولية عليه، بل قد يؤدى ذلك لإعادة النظر في المطالبة بإقصاء الأسد، وقد يجد له دورًا في إطار حل ما مستقبلي للمعضلة السورية. غير أن متابعة جبهات الحرب الأهلية الجارية في سوريا تبرهن على أن «داعش» قد توصلت أيضا إلى أن ذلك يحقق مصالحها، ولذا فإنها تجنبت مواجهة الأسد عسكريًا، وكرست كل جهدها الحربي تجاه الأطراف ذاتها التي تشكل الهدف العسكري والسياسي الرئيسي للأسد، «توأمها».
الاتهام الذى وجهه ملك الأردن إلى الأسد، يصعب حصره به فقط، فهو ينطبق على كثيرين يصعب تصور استمرارهم في الحكم والقمع زمنًا طويلًا إذا اختفى «التوأم»، أي الطرف «الأكثر شرًا وقبحًا». كان على عبد الله صالح رئيس اليمن السابق من أبرز قيادات النخب الأمنية العسكرية الحاكمة في العالم العربي التي أدركت ذلك مبكرًا. لقد ساعد الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا في مواجهة تنظيم «القاعدة» في اليمن، ولكن ليس للقضاء عليها بشكل تام. الحكم الحالي في مصر يحتاج أيضًا، لأن يبرهن على أن الإرهاب هو الخطر الرئيسي الذي يواجهه، وليس القوى المجتمعية المعادية للتطرف والإرهاب هي الأخطر. تزايد أعداد ضحايا الإرهاب من المدنيين والشرطة والعسكريين هو مؤشر على أن الإرهاب لا يجد ردًا مكافئًا يتناسب مع خطورته، خاصةً في ظل التزايد المطرد في عدد ضحايا أعمال القبض والمحاكمات المسيسة وغير العادلة، من النشطاء السياسيين السلميين، إسلاميين وعلمانيين، الذي يقدر عددهم بعشرات الآلاف.
ذلك الاحتياج الوجودي «التوأمي» المتلازم بين نظام الأسد و«داعش» لوجود كل منهما لا يحول بالطبع دون، بل يتطلب، أن يتواصل الخطاب الإعلامي العدائي المتبادل بين الطرفين، والذي يتعامل مع الطرف الآخر باعتباره العدو الرئيسي، بل الأخطر. ولكن خلف دخان الخطاب الإعلامي الاستئصالي المتبادل، يقوم الطرفان –أي «داعش» والنخبة الأمنية العسكرية الحاكمة في سوريا، بتقديم الدعم الحيوي المتبادل لماكينتيهما الحربية، بما في ذلك براميل الأسد البترولية المتفجرة. حيث تبيع «داعش» إلى الحكومة السورية البترول، الذي استولت على آباره في المناطق التي سيطرت عليها، بأسعار أرخص من السوق العالمية، مقابل الحصول على الأموال اللازمة لشراء مستلزمات حيوية أخرى لماكينتها الحربية.
لأسباب مختلفة، أفلتت المغرب وتونس حتى الآن من هذه السيناريوهات الصفرية. فقد بدأت النخبة الحاكمة والمعارضة في المغرب مبكرًا، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، عملية ترميم وإعادة تأهيل سياسية ومجتمعية شاملة لماضي المغرب الذى لا يقل قسوة. لولا ذلك لربما كان المغرب يعانى نفس ويلات المسار السوري أو العراقي. بينما أفلتت الانتفاضة التونسية من المصير المصري الحزين، بفضل تواضع الطموح السياسي لنخبتها العسكرية ومهنيتها، وديناميكية مجتمعها المدني المفتوح على المجال السياسي والنقابي، وانفتاح وبراجماتية قيادة حركة «النهضة» الإسلامية. الأمر الذى ساعدها في الوقت المناسب، على استيعاب دروس السقوط السياسي المروع للإخوان المسلمين في مصر.
عندما اندلعت الانتفاضة في سوريا في عام ٢٠١١، بادر بشار الأسد بالإفراج عن عدد كبير من قيادات التطرف الديني والإرهاب، بهدف جر الانتفاضة إلى الفوضى والتطرف والعنف. في مصر أيضا، لم تطالب رموز «الربيع العربي» بالإفراج عن القيادات الإرهابية من السجون بعد انتفاضة ٢٥ يناير، بل بادر بالإفراج عنهم بعد شهور محدودة من الانتفاضة المجلس العسكري الذي تولى الحكم بعد تنحى الرئيس السابق حسنى مبارك. جرت الإفراجات ـ التي لم يُقدم لها تبرير رسمي حتى الآن ـ بينما كانت مظاهرات أكثر الجماعات الإسلامية تطرفًا تحتل «ميدان التحرير»، مناديةً بتعيين رئيس المجلس العسكري «أميرًا» للبلاد! بعد الإفراج عنهم انتقلت أغلب تلك القيادات إلى سيناء، بينما بدأت قيادات المجلس العسكري الحاكم– بتواطؤ من جماعة الإخوان المسلمين، أكبر حملة تشهير بحركة «٦ إبريل» الليبرالية، تبعتها ببقية النشطاء العلمانيين، ثم تلتها بمواجهات عنيفة في شوارع وميادين القاهرة لتجمعات قبطية ولنشطاء غير إسلاميين. قبل أن ينتهى العام ٢٠١١، كانت قد توجته بحملة مداهمات عسكرية غير مسبوقة لمقار عدد من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية. بعد نحو ٧ شهور شنت الجماعات الإرهابية أول هجوم كبير لها في سيناء في ٧ أغسطس ٢٠١٢، قتلت فيه ١٦ جنديًا مصريًا واختطفت عربتين مدرعتين. خلال العامين التاليين تصاعدت أعمال العنف والانتقام السياسي في أغلب المدن المصرية، وكذا الهجمات الإرهابية في سيناء، في الوقت نفسه الذى قامت فيه السلطات الأمنية ودوائرها الإعلامية والقضائية بتصعيد هجومها على النشطاء الشباب، إسلاميين وعلمانيين، ثم على منظمات حقوق الإنسان المستقلة، إلى مستوى لم تعرفه من قبل منظمات حقوق الإنسان منذ نشأتها في مصر منذ ثلاثة عقود. هناك اختلافات عميقة للغاية بين المشهد السياسي في سوريا ومصر، ولكن المتشابهات واضحة لمن يملك نعمة النظر.
لم تكن تلك الفوضى من صنيعة «الربيع العربي»، بل بالأحرى هو ولد في قلبها. ولد في دول لم يبق من بعضها سوى اسمها، وعلم مرفوع على أطلالها بأذرع ما بقى من نخبها الأمنية/ العسكرية الفاسدة، بينما ملايين «السكان» يهيمون على وجوههم بحثًا عن «مسكن» آخر، حتى لو كان قبرًا في أعماق البحر الأبيض المتوسط.
في مسرحية صمويل بيكيت «العبثية» لا يأتي «جودو» أبدًا رغم طول انتظاره. بينما في «الواقع» العربي –الأكثر عبثية مما دار بخيال بيكيت، يأتي «جودو»، ولكنه يجد في انتظاره النخب الأمنية العسكرية ذاتها، مصحوبةً بتوأمها، أي جيوش جماعات التطرف الديني والإرهاب التي ترعرعت في أحضان هذه النخب.
[1] نشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم، وهو جزء من مقدمة التقرير السنوي لحالة حقوق الإنسان في العالم العربي 2014
Share this Post