بهي الدين حسن
في عام 2005 لم يكن الرئيس حسنى مبارك كمرشح وحيد محتمل للنظام الحاكم محلا للجدال، بينما تتوالى المؤشرات منذ بداية عام 2010، التي تفترض أن مبارك ربما لن يكون بإمكانه خوض الانتخابات الرئاسية لأسباب تتعلق بتقدم العمر أو بالحالة الصحية، أو لأن جمال مبارك يعتقد أن فرصته الوحيدة لتولى الحكم هي باستلامه في وجود والده، أو لأن هناك قسما من النخبة الحاكمة صار يعتقد أن الرئيس مبارك قدم كل ما لديه، وأنه ليس من صالح النخبة الحاكمة أو نظام الحكم استمراره في الحكم، حتى لو أن حالته الصحية تسمح بذلك. ولكن المشكلة أن ذلك يحدث في نفس الوقت الذي يعجز فيه نظام الحكم عن أن يقدم شخصية ثانية، يمكن أن تحوز توافق النخبة الحاكمة على ترشيحها رئيسا.
إن أزمة النظام الحاكم في التوافق على مرشح وعلى مشروعية جديدة، هي مصدر لصراع داخلي مكتوم، وتوتر حاد، خاصة أن هذا النظام فشل في كل مناسبة على مدار 58 عاما، في أن يحسم بوسائل سياسية خلافات مشابهة بين مختلف الأطراف داخل نخبة الحكم.
إن اختلاف البيئة الدولية في عام 2005 عنها في عام 2010 هو عنصر مهم آخر في تشكيل ملامح المشهد السياسي للانتخابات. في عام 2005 كان المجتمع الدولي يضع على رأس أولوياته قضايا الإصلاح السياسي في مصر والعالم العربي ــ كرد فعل على هجمات 11/9 ــ ولذا توالت المبادرات الدولية من أجل الإصلاح، من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومجموعة دول الثماني. وآل هذا الاهتمام في مصر إلى المساعدة على وضع حدود للقمع المكشوف في مناسبات معينة، وبالتالي توسيع هامش الحركة أمام المجتمع المدني والجماعات السياسية حينذاك، وميلاد عدد من الصحف المستقلة ثم القنوات الخاصة، والتحول من نظام الاستفتاء على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية إلى انتخابات رئاسية تعددية.
في 2010 لم يعد الإصلاح السياسي على جدول أعمال المجتمع الدولي، وبالتالي لا يجد نظام الحكم نفسه تحت ضغط جدي. وأنه حتى لو كانت الانتخابات البرلمانية القادمة ستكون الأسوأ خلال 58 عاما، فإن الأمر لن يتجاوز كلمة نقد هنا وهناك، مثلما حدث في فضيحة «لا انتخابات» مجلس الشورى في يونيو الماضي.
ولدت ظاهرة الصحافة المستقلة في مصر في عام 2004، وشهدت نفس الفترة ميلاد عدد من القنوات الخاصة التي بدأت حينذاك تهتم على استحياء بالشأن العام، كما بثت الجزيرة للعالم مشاهد حية للقمع واسع النطاق والتدخل الأمني السافر الذي اكتسح النصف الثاني من جولات الانتخابات البرلمانية في 2005.
ولكن عام 2010 يسير في الاتجاه المعاكس، حيث جرى تقويض «الدستور» أكثر الصحف المستقلة نقدا للنظام الحاكم، ووقف بعض البرامج الحوارية، أو وقف مديريها، وإنذار قنوات ذات طبيعة إخبارية، وتقييد مزاولة الفضائيات للبث الحي المباشر للأحداث. هذا فضلا عن تقييد الرسائل الإخبارية المجمعة من خلال التليفون المحمول. في نفس الوقت الذي تتزايد فيه شكوى الصحفيين في الصحف المستقلة والمعارضة من أن الهاجس الأمني يتزايد تأثيره على تحريرها.
إن انتخابات 2010 سيكون عليها منذ اللحظة الأولى أن تشق طريقها وسط الظلام، بل وأيضا في غياب الإشراف القضائي، وقد تفتقر أيضا لمراقبة منظمات حقوق الإنسان، على نفس النحو الذي تم به إقصاء هذه المنظمات من مراقبة انتخابات مجلس الشورى في يونيو من هذا العام.
في انتخابات 2005، اكتفى نظام الحكم بترضية أحزاب المعارضة الرسمية «الأليفة» بمقاعد محدودة، حيث كانت الصفقة الرئيسية من نصيب جماعة «الإخوان المسلمين» ـ مثلما اعترف بذلك لاحقا المرشد العام للجماعة وقتها ـ بهدف تمثيلها في البرلمان بطريقة لا تنتقص من الأغلبية الساحقة للحزب الحاكم وأنصاره، ولكن بما يكفى لإحداث الصدمة المستهدفة للمجتمع الدولي، لكي يدرك أن البديل الوحيد لنظام الحكم الحالي هو الإسلاميون، ومن ثم يتخلى عن اهتمامه بالإصلاح السياسي.
حققت جماعة الإخوان المسلمين انتصارا تكتيكيا بحصولها على نحو 20% من مقاعد البرلمان، دون أن يساعدها ذلك على وقف تشريع واحد أو تعديله، بينما حقق نظام الحكم مكسبا استراتيجيا، أعاد إليه زمام المبادرة الذي كاد يفلت منه تدريجيا منذ 11/9.
في عام 2010 الصفقة الرئيسية من نصيب أحزاب «المعارضة» الرسمية، التي صارت بمرور الزمن أقرب لأجنحة للحزب الحاكم، وفقا لتوصيف قيادي بارز بأحد هذه الأحزاب. ولكن الصفقة أكبر كثيرا من مقاعد هنا وهناك، إنها صفقة سياسية أشمل، تحصل من خلالها هذه الأحزاب على بعض مقاعد الإخوان المسلمين، بينما تقوم هذه «المعارضة» بدور عالي الصوت في «معارضة» المعارضة غير الرسمية التي تدعو لمقاطعة الانتخابات، وفى «معارضة» الرقابة الدولية على الانتخابات، بل وفى المساهمة في تقويض جريدة «الدستور».
قبل نحو شهر من الانتخابات البرلمانية، جرت انتخابات اتحادات الطلاب في الجامعات المصرية، وشهدت أعمال قمع وتدخلا واسع النطاق، بما في ذلك شطب عدد من المرشحين، حتى إن أغلبية الاتحادات جرى تشكيلها بالتزكية دون حاجة لانتخابات، وحينما كانت هناك ضرورة لإجراء انتخابات، كان من الصعب إيجاد الناخبين.
ماذا نتوقع إذن في إدارة انتخابات برلمانية ستلعب دورا حيويا في تحديد فرص حق الترشح للانتخابات الرئاسية؟
خارج المشهد الانتخابي هناك معركتان حيويتان أكثر أهمية منه، لأنهما أكثر صلة بمستقبل هذا البلد. الأولى خارج المسرح ذاته، وهى تتعلق بالمدى الذي ستتمكن فيه جماعات المعارضة غير الرسمية المقاطعة ــ الشبابية وغير الشبابية ــ من العمل معا بكفاءة، ومحاولة التأثير السياسي على المشهد الانتخابي، وانتهاز الفرصة لتوجيه خطاب منسجم ومؤثر لعموم المصريين الذين يقاطع أغلبيتهم تلقائيا الانتخابات العامة.
إن أحد المتغيرات المهمة في 2010 مقارنة بـ2005، هو أن الجماعات الشابة صارت المكون الرئيسي في المعارضة غير الرسمية، والتي نجحت في إدماج وسائل الاتصال الحديثة في أساليب عملها.
المعركة المهمة الثانية تجرى خلف كواليس المسرح، بين الأقطاب المتصارعة داخل النظام الحاكم حول مستقبله وحول شخص الرئيس التالي، وبالتالي حول إنجاح أنصارهم من المرشحين في الانتخابات باسم الحزب الحاكم. هذه هي المعركة «الانتخابية» الحقيقية، ولذلك ستكون الأكثر شراسة وربما دموية؛ لأنها تتصل بالصراع على موقع رأس نظام يقوم على حكم الفرد، ولأنها تجرى لتقاسم نسبة الـ80% من مقاعد البرلمان التي لن يتنازل عن أقل منها النظام الحاكم. هذا الصراع الداخلي هو أحد العوامل التي أجبرت الحزب الوطني على أن يرشح شخصين أو أكثر للتنافس على المقعد الواحد! ليصير صراع الكواليس، هو الصراع الرئيسي في الانتخابات القادمة.
أما بقية المقاعد، فليست هناك معركة كبرى تجرى حولها، فكما صرح مسئولون كبار في الحزب الحاكم والحكومة، فإن حزب الوفد سيكون حزب «المعارضة» الأكبر في البرلمان، بينما تتوزع بقية المقاعد وفقا «للرنين السياسي» لاسم هذا الحزب أو ذاك ــ بطريقة كرسي أو أكثر لكل حزب ــ بحيث يضم البرلمان القادم ممثلين لأكبر عدد من «الأحزاب» منذ يوليو 52، بما يساعد على تسويق نتائج «الانتخابات»، وترميم المشروعية السياسية لنظام الحكم التي تتهاوى منذ أكثر من أربعة عقود.
في هذا السياق يمكن فهم موقف عموم المصريين الذين لن يذهبوا للاقتراع، ليس استجابة لدعوات المقاطعين، فالداعون للمقاطعة هم في نهاية المطاف أقلية تنضم لأغلبية ساحقة تقاطع الانتخابات العامة منذ أكثر من نصف قرن.
نشر هذا المقال بجريدة الشروق
Share this Post