السيناتور الأميركي روبرت مينينديز في مؤتمر صحفي في نيوجرسي (25/9/2023/Getty)

مواجهة جماعات مصالح الاستبداد في واشنطن

In مقالات رأي by CIHRS

معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري، المشرف العام على مجلة رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

تكشف تفاصيل لائحة الاتهام التي وجّهها الادعاء العام في الولايات المتحدة، أخيرا، ضد السيناتور روبرت مينينديز، المساعي الحثيثة التي بذلتها السلطات المصرية على مدار السنوات الأخيرة لتقوية مركزها السياسي لدى إدارة بايدن، عبر محاولة اختراق أعضاء الكونغرس من خلال تقديم رشاوى مالية وعينية للسيناتور، صاحب النفوذ السياسي الواسع في الكونغرس، من مسؤولين مصريين ورجال أعمال مصريين حاصلين على الجنسية الأميركية. ستكون لهذه الفضيحة التي ملأت الصحف العالمية تداعيات وأصداء على مسار العلاقات المصرية الأميركية لما تسبّبه من حرج شديد لإدارة بايدن، وما ستكشف عنه الإجراءات القضائية في الفترة المقبلة، فالسياسي الذي يواجه هذه الاتهامات من أبرز قيادات الحزب الديمقراطي، ويترأس لجنة للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. ويأتي الإعلان عن الاتهامات بالتزامن مع قرار إدارة بايدن بالموافقة على تسليم الحكومة المصرية مبلغ 235 مليون دولار من المعونة العسكرية لعام 2022، من إجمالي المبلغ المشروط بتحسّن حقوق الإنسان في مصر، والاكتفاء بتخفيض 85 مليون دولار فقط، على عكس مطالب بعض نواب الكونغرس، من أبرزهم السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي، الذين ضغطوا على الإدارة لعدم تسليم المبلغ كاملا، والمقدّر بـ320 مليون دولار.

يؤكّد تورّط السلطات المصرية في هذه الفضيحة الوزن الكبير التي توليه السياسة الخارجية المصرية، ومؤسّستها العسكرية لمواقف الإدارة الأميركية تجاهها، وتجاه المساعدات العسكرية التي يؤمنها الجيش المصري من الإدارة الأميركية سنوياً منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل عام 1978. لقد عملت الديبلوماسية المصرية منذ جاء السيسي إلى الحكم لتنويع العلاقات الخارجية، سواء مع الدول الأوروبية أو روسيا والصين، وتنويع مصادر السلاح المستورد إلى مصر، حيث أصبحت مصر ثاني أكبر مستورد للسلاح الفرنسي منذ عام 2014. لكن العلاقات القريبة لا تزال قائمة بين الجيش المصري والولايات المتحدة، فالمعونة العسكرية مضمونة سنوياً، وتعد في نظر الحكومة المصرية دليلا على استمرار تمتع الحكومة المصرية بمكانة استراتيجية لدى البيت الأبيض. وفي الوقت نفسه، تشير تفاصيل هذه الفضيحة إلى نجاح المجتمعين المدنيين المصري والأميركي في جعل ملف حقوق الإنسان قائماً ومستمراً في العلاقات، وهو ما دفع الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة إلى الاستثمار بنفسها لاحتواء الضغط الأميركي وإضعاف الضغوط التي يمارسها بعض أعضاء الكونغرس من أجل أن تتخذ الإدارة الأميركية مواقف أكثر صرامة تجاه الحكومة المصرية في قضايا حقوق الإنسان، خصوصا مع تكرر تجميد ثم تخفيض مبالغ من هذه المساعدات في عهد إدارة بايدن.

ذكر لي ناشط أميركي بارز من قيادات منظمة مشروع الشرق الأوسط للديمقراطية، والتي تعمل في واشنطن لدمج حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأميركية، أنه على مدار السنوات العشر الأخيرة، بدأ يتضح تأثير القدرات المالية الضخمة لجماعات المصالح التي تمثل أنظمة سلطوية عربية في تحجيم تأثير أدوار المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان العرب والأميركيين. ويعود اهتمام الحكومات العربية لتأسيس مراكز ضغط داخل واشنطن إلى عقود طويلة، لكن هذا الاهتمام تزايد وأصبح أكثر تنظيماً وفجاجة في مواجهة دعاة حقوق الإنسان في واشنطن وعواصم غربية أخرى، بالتزامن مع حصار ثورات الربيع العربي، وبالتزامن مع زيادة أعداد الجماعات العربية المشكلة في المهجر، والتي تنشط عبر أدوات النظام العالمي لحقوق الإنسان لتفنيد خطابات حكوماتها ومحاولة التأثير على توجّهاتها الوطنية.

تجسد فضيحة مينينديز إحدى صور تدخل السلطات المصرية بنفسها، وبطريقة غير قانونية، للتأثير على القرار في واشنطن، لكن هناك أنماطا أخرى من الضغوط بالوكالة، والتي دأبت على ممارستها دول حليفة للحكومة المصرية، مثل الإمارات، منذ عام 2014، مستغلين الثغرات الموجودة بالفعل في النظام السياسي الأميركي لتقوية علاقات النظام الحاكم المصري وغيره من أنظمة سلطوية بالإدارات الأميركية المتعاقبة. وكانت صحيفة واشنطن بوست قد كشفت، عبر سلسلة من التحقيقات التي نشرت في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، عن الأنشطة التي تقوم بها حكومات أجنبية، من بينها حكومات عربية لربط المسؤولين الأميركيين، المدنيين والعسكريين، في شبكة متداخلة من المصالح المالية والاقتصادية التي تدفعهم إلى الدفاع عن مصالح هذه الحكومات في واشنطن. وطبقاً لهذه التحقيقات، عمل منذ عام 2015 أكثر من 500 من الأفراد العسكريين الأميركيين المتقاعدين، بما في ذلك عشرات الجنرالات، مقاولين ومستشارين لحكومات أجنبية، ومعظمهم جرى استقطابه بواسطة حكومتي الإمارات والسعودية. وطبقاً للناشطين الأميركيين، أصبح من الشائع أن يتجنّب الموظفون العموميون والعسكريون وأعضاء الكونغرس إغضاب بعض الحكومات الأجنبية خلال فترات توليهم وظائفهم، حتى لا يفقدوا فرص الحصول على مزايا وظيفية ومالية بعد خروجهم من الخدمة. وقد توالت المطالب في الكونغرس منذ نشر هذه التحقيقات بوضع إجراءات قانونية صارمة تحدّ من هذه الاختراقات التي تؤثر على عمل المؤسّسات الدستورية الأميركية وتوجهاتها.

لا يرجع دعم الإدارة الأميركية بعض السلطويات العربية فقط لتغيرات المشهد السياسي الدولي، والقلق من خطر صعود قوة دولية مناوئة للغرب في المنطقة العربية، مثل روسيا والصين، بل الثغرات الموجودة داخل النظام السياسي الأميركي، والمتمثلة في غياب الإجراءات الصارمة لتجنب تضارب مصالح كبار المسؤولين، ساهمت أيضاً عبر سنواتٍ في تسهيل تسرب جماعات مصالح الاستبداد في واشنطن والنجاح المتكرّر في إعادة توجيه سياساتها الخارجية… وتبعث فضيحة مينينديز رسالة مفادها أن مواجهة السلطوية في مصر ودول عربية أخرى أصبحت معركة مفتوحة، حيث تمثل العواصم الغربية امتداداتٍ لما يجري في القاهرة والعواصم العربية. تستدعي الاختراقات التي تحققها هذه الحكومات داخل أجهزة القرار الأميركية والغربية أن تتوجّه جهود المجتمع المدني المصري والعربي في المنافي من مجرّد التفاعل ذي الطابع النخبوي مع المؤسّسات السياسية الغربية إلى بناء جذور شعبية وتحالفات واسعة في هذه المجتمعات، لمواجهة التأثير التخريبي لتحالفات مصالح الاستبداد في العواصم الغربية.

المصدر: العربي الجديد

Share this Post