في 5 أبريل الجاري، انتهت واحدة من أطول جلسات مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بعدما امتدت لـ 6 أسابيع. وفي هذه الجلسة، ناقشت الدول الأعضاء وصوتت على عدة قرارات تتعلق بقضايا حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، وعلى الأخص في فلسطين وأوكرانيا. إلا أن ازدواجية المعايير والصمت عن جرائم خطيرة في بلدان تشهد أزمات حقوقية ملحة، ما زالا يتسببا في تآكل فعالية المجلس ومصداقيته بشكل مؤسف.
يقول جيريمي سميث، مدير مكتب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في جنيف: «يستمر تخلي المجلس عن ضحايا الانتهاكات والأعمال الوحشية، أو يتجاهلهم بشكل جماعي، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع الإقرار بأهمية التحقيقات حول روسيا وأوكرانيا، لكن لا ينبغي أن تكون أولوية هذه القضايا مبررًا للتخلي عن ضحايا آخرين لانتهاكات حقوق الإنسان».
وفي هذا السياق، أدان بيان مشترك للمنظمات غير الحكومية في نهاية هذه الجلسة فشل المجلس المتكرر في حماية الضحايا في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ بما في ذلك في الجزائر والبحرين ومصر وليبيا والمملكة العربية السعودية واليمن. إذ تستمر معاناة الشعب الليبي والشعب اليمني جراء جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحقهما. ويتعرض المواطنون في جميع أنحاء المنطقة «بشكل روتيني» لانتهاكات وحشية واسعة النطاق بهدف إسكات المعارضة والقضاء على المجتمع المدني المستقل وسحق الحركات الاجتماعية الديمقراطية. بينما أوقف المجلس، على مدى السنوات الأربع الماضية، تحقيقات جرائم الحرب في اليمن وليبيا، ورفضت دوله الأعضاء مواصلة اتخاذ مواقف مشتركة في المجلس تدين انتهاكات الحقوق في البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية.
ورغم الأزمات الحقوقية الخطيرة التي تستشري في معظم البلدان العربية، إلا أن بلدين فقط يخضعان حاليًا للتحقيقات في المجلس؛ سوريا والسودان، وسط مخاوف من إيقاف هذه التحقيقات قريبًا بسبب العرقلة والانتقائية من دول المجموعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وانكماش القيادة المبنية على المبادئ في المجلس.
وبحسب سميث: «يجب أن يتخطى موقف المجلس ودوله الأعضاء كافة الأجندات السياسية الضيقة، ويواجه الانتقائية والمعايير المزدوجة التي أضحت سمة عمله بشكل متزايد. إذ أن الفشل في ذلك لن يؤدي إلا إلى تمكين الحكومات الاستبدادية في جهودها الرامية إلى العصف بنظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان».
غابت أيضًا بشكل ملحوظ عن مداولات هذه الجلسة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها الصين. وبحسب بيان المنظمات، يعد الفشل المستمر لأعضاء المجلس، ولا سيما دول منظمة المؤتمر الإسلامي، في تعزيز المساءلة عن الجرائم ضد الإنسانية بحق الأويغور والشعوب المسلمة في الصين، سببًا قويًا في تقويض نزاهة المجلس وقدرته على منع الجرائم الوحشية ووضع حد لها على مستوى العالم.
كانت القرارات والمداولات بشأن الأوضاع في فلسطين وفي أوكرانيا أكثر الموضوعات نقاشًا طوال مدة الجلسة. إذ قدمت اللجنة المعنية بالتحقيق بشأن أوكرانيا تقريرًا يسلط الضوء على جرائم الحرب والانتهاكات الأخرى التي ارتكبتها روسيا في أوكرانيا، بما في ذلك النقل القسري للأطفال. واعتمد المجلس قرار لضمان استمرار التحقيق، فيما صوتت الصين وإريتريا وبوروندي ضد القرار. كما قدم المقرر الأممي الخاص المعني بالأرض الفلسطينية المحتلة تقريرًا رائدًا خلص إلى أن استراتيجية الحرب الإسرائيلية على سكان غزة المحاصرين تفي بالشروط القانونية التي تعزز ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. كما اعتمد المجلس ثلاثة قرارات بشأن فلسطين. وتضمن قرار بشأن «ضمان العدالة والمساءلة» دعوة الدول الأعضاء، استنادًا لقرار محكمة العدل الدولية، إلى وقف بيع ونقل وتحويل الأسلحة والذخائر وغيرها من المعدات العسكرية والمعدات مزدوجة الاستخدام إلى إسرائيل، إذا كانت هناك أسباب معقولة للاشتباه في استخدامها لارتكاب جرائم. وقد تم اعتماد القرار بأغلبية 28 صوتًا وامتناع 13 عضوًا عن التصويت، ومعارضة 6 أعضاء أبرزهم الولايات المتحدة وألمانيا، اللذان كانا الأكثر معارضة والأكثر صخبًا ضد القرار، بالإضافة إلى معارضة الأرجنتين وبلغاريا وباراغواي وملاوي. بينما في مؤشر إيجابي نسبيًا، صوتت بلجيكا ولوكسمبورغ وفنلندا لصالح القرار.
كان مركز القاهرة قد حذر في مؤتمر صحفي في بداية الجلسة من أن ازدواجية المعايير بشأن قضيتي أوكرانيا وفلسطين تهدد بزيادة الاستقطاب السياسي، وتقويض شرعية مبادرات حقوق الإنسان، على نحو يهدد بشدة قدرة نظام الأمم المتحدة على معالجة حالات حقوق الإنسان الحرجة والقضايا المواضيعية في جميع أنحاء العالم. وفي بيانه أمام المجلس، سلط مركز القاهرة الضوء على الحاجة إلى إنهاء كل تواطؤ ودعم لاستهداف إسرائيل العشوائي للسكان المدنيين، والقيود التي تفرضها على المساعدات الإنسانية، والتجويع المتعمد للسكان النازحين، وتشريد مجتمعات بأكملها، وتدميرها العشوائي للبنية التحتية الحيوية.
ووفقًا لمدير مكتب المركز في جنيف؛ شهدت هذه الجلسة تبنيًا كاملًا للمعايير المزدوجة من دون خجل، فرغم أنه «من المشجع أن تحيد 3 دول أوروبية عن المواقف الأمريكية والألمانية وتتخذ موقفًا مبدئيًا يدعم المساءلة عن جرائم إسرائيل. لكننا نتطلع أن تحذو بقية الدول في المجموعة الغربية حذو هذه الدول الثلاث، ونحث جميع البلدان على التوقف فورًا عن تزويد إسرائيل بالأسلحة».
في هذه الجلسة أيضا، قدمت لجنة التحقيق الدولية المعنية بسوريا تقريرها للمجلس؛ الذي اعتمد بدوره قرار بتجديد ولاية لجنة التحقيق ومواصلة دورها الحاسم لضمان المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من جميع أطراف النزاع. كما سلط القرار الضوء على ضرورة دعم الدول لعمل ولاية المؤسسة المعنية بتحديد مصير المفقودين في سوريا، وهي آلية شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا، استجابة لدعوات المجتمع المدني السوري. وفي هذا السياق أعرب مركز القاهرة في بيان أمام المجلس بالشراكة مع منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، عن قلقه العميق إزاء تصاعد الأعمال العدائية في جميع أنحاء سوريا، وأيد مطلب لجنة التحقيق الدولية بوقف عاجل لإطلاق النار. وبحسب البيان: «استغلت مختلف أطراف النزاع، بمن فيهم تركيا، التجاهل المستمر للوضع في سوريا، لارتكاب المزيد من الانتهاكات التي قد تصل حد جرائم الحرب.. وعلى المجتمع الدولي التحرك فورًا لاعتماد نهج أكثر شمولاً للعدالة والمساءلة في سوريا».
وفي بيانه عن مصر أمام المجلس، أدان مركز القاهرة استمرار صمت المجلس عن الانتهاكات الحقوقية واسعة النطاق في مصر، بما في ذلك الحملة غير المسبوقة على الحريات المدنية، والقضاء التام على المعارضة السياسية من خلال زيادة الاعتقالات التعسفية وأحكام الإعدام، والتعذيب واسع النطاق الذي قد يصل حد جريمة ضد الإنسانية، والممارسات الروتينية للإخفاء القسري والحبس الاحتياطي المطول الذي لا ينتهي.
وخلال هذه الجلسة أيضًا، انضم مركز القاهرة إلى ائتلاف واسع من منظمات المجتمع المدني في الدعوة لتجديد التفويض بشأن إيران وبشأن جنوب السودان. وبالفعل تم تجديد بعثة تقصي الحقائق وولاية المقرر الخاص المعني بإيران، كما تم تجديد ولاية لجنة حقوق الإنسان المعنية بجنوب السودان. ومن نتائج هذه الجلسة الإيجابية الأخرى، صدور أول قرار على الإطلاق يدعم حقوق حاملي صفات الجنسين (مزدوجي الجنس)، والقرارات المتعلقة بمنع الإبادة الجماعية ، وتجديد ولاية المقرر الخاص المعني بحق الإنسان في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة.
ورغم أنه تم اعتماد قرار بشأن حرية الدين أو المعتقد، لم يتم طرح القرار الموازي بشأن مكافحة التعصب (المعروف بالقرار رقم 16/18) على جدول أعمال الجلسة. علمًا بأنه منذ عام 2011، يتم تجديد هذين القرارين في وقت واحد، ما يمثل إطارًا توافقيًا لمعالجة الأسباب الجذرية للكراهية القائمة على الدين أو المعتقد. وقد يرجع ذلك إلى مساعي منظمة التعاون الإسلامي لطرح إطار بديل حول «مكافحة الكراهية الدينية» والمستمرة منذ العام الماضي. وقد سبق وكتبت المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك خلال هذه الجلسة، للدول الأعضاء، وتدخلت أمام المجلس، محذرًة من هذه المساعي، التي تحاول من خلالها منظمة التعاون الإسلامي إدراج قوانين «التجديف الديني» في الإطار الدولي لحقوق الإنسان، وبالتالي إضعاف المعايير العالمية، بما في ذلك حرية التعبير وحرية الدين.
من جانبه، وجه المقرر الخاص الجديد المعني بمكافحة الإرهاب تحذيرًا شديدًا للمجلس بشأن «تفشي الانتهاكات المرتبطة بقوانين مكافحة الإرهاب على نحو يهدد حقوق الإنسان على مستوى العالم». وفي هذا الإطار رحب مركز القاهرة بأن الشرق الأوسط سيكون محورًا جغرافيًا للزيارات القُطرية للمقرر الخاص، وحثه على التركيز على شمال إفريقيا حيث تتشابه أنماط الانتهاكات في سياق مكافحة الإرهاب وتترابط مع تلك الموجودة في الشرق الأوسط. ففي مصر والجزائر، تم توظيف هذه القوانين والممارسات لإسكات الحركات الاجتماعية الكبيرة المتطلعة للإصلاح الديمقراطي والاقتصادي، وأصبح لمصطلح «مكافحة الإرهاب» معنى مزدوجًا للقمع الوحشي وتدمير المجتمع المدني المستقل.
وفي مداخلة أخرى للمركز أمام المجلس، دعا حكومة ليبيا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية المجتمع المدني، مؤكدًا على الحاجة إلى أشكال وطنية ودولية للمساءلة عن الجرائم السابقة والحالية المرتكبة في ليبيا، بما في ذلك الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في البلاد.
وكان المركز قد عقد على هامش هذه الجلسة في 18مارس الماضي، ندوة عامة بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية الليبية والدولية، تحت عنوان: «حرية تكوين الجمعيات في ليبيا في سياق الانتخابات القادمة: حماية الدور الحاسم للمجتمع المدني في ليبيا». وفيها سلط المدافعون الليبيون وممثلو المجتمع المدني الضوء على الإطار القانوني القمعي المنظم للفضاء المدني، والهجمات العنيفة بحق المجتمع المدني، محذرين من أن هذه الممارسات تهدد إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة في البلاد. كما دعا مركز القاهرة السلطات الليبية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة قمع المجتمع المدني، من خلال سن لوائح وقوانين تضمن حرية تكوين الجمعيات وتتوافق مع المعايير الدولية، على النحو المفصل في الرسالة التي وجهها للحكومة المقرر الخاص المعني بحرية تكوين الجمعيات والتجمع، بمت يتوافق مع الإعلان الدستوري الليبي، وخارطة الطريق التي وافق عليها أعضاء الحكومة الليبية خلال مائدة مستديرة استضافها المقرر الخاص في جنيف يومي 6 و 7 فبراير 2024.
Share this Post