محمد سيد سعيد
جريدة البديل، 26 سبتمبر 2008
أخبار تعذيب مواطنين بسطاء كل يوم في أقسام الشرطة صارت تتدفق في الصحف بصورة شبه يومية. وينشأ جانب كبير للتعذيب واستعمال القسوة الزائدة، والتي كثيرًا ما تفضي للموت، ليبلور ثقافة عنصرية بمواجهة الفقراء وسكان الأحياء الشعبية. ولا يمكن بالطبع التقليل من دوافع أخري شرحنا بعضها بالأمس، خاصةً سيادة مدرسة يهمها «سد الخانة» بالنسبة لكثرة من الجرائم باستعمال القسوة مع المتهمين وتوسيع دائرة الاتهام حتى «تصدف» ويكون الجاني من بينهم ويعترف!
أما أهم دوافع التعذيب واستعمال القسوة من جانب ضباط البوليس فهو بدون شك ما يسميه علماء الاجتماع «الاستعمار الداخلي». وقد نجحت وزارة الداخلية في تحويل مصر كلها إلى مستعمرة تستبيح فيها الأعراف والقوانين كافة، وتفعل بمواطنيها ما تشاء دون رادع.
والاستعمار الداخلي ينشأ عن شعور عات بامتلاك قوة غاشمة لم تعتد أن تكون مسئولة أو موضع مراجعة دائمة من جانب مؤسسات المجتمع أو الدولة.
ويرتبط بالقوة شعور آخر قوي للغاية ويتم التحدث عنه ببساطة بين أبناء هذه الطبقة، وهي «عقيدة امتلاك الدولة». هذه العقيدة تعكس شعورًا عاتيًا بأن مصر كلها ملك لهذه الطبقة. واليوم يشارك كثيرون من أبناء هذه الطبقة الرئيس في حديثهم عن أنفسهم مستعملين كلمة «مصر». فمصر هي «أنا». وهي قد تشرك شرائح من الطبقات الغنية في الهيمنة على البلاد ولكنها لا تقبل من أي طرف آخر أقل من الاعتراف الصريح بسموّها كطبقة مالكة بالقوة. هذه الطبقة، إذًا، لا تقبل أي منازعة على الإطلاق فيما يخص «عقيدة الملكية» هذه. فحتى المساعدون المدنيون الكبار للسلطة العسكرية والبوليسية، ومهما علا شأنهم، يجب أن «يلزموا حدودهم» ودورهم وهو خدمة طبقة كسبت البلد بالقوة وتحافظ عليه لها وحدها بالقوة.
وإن كان جيل وراء جيل من المفكرين والمخلصين للعمل العام قد شكا من غياب المواطنة فسر هذا الغياب بسيط للغاية وهو كامن هنا. فعقيدة امتلاك الدولة المصرية والشائع في صفوف طبقة العسكريين وضباط البوليس ينفي ويقتلع من الجذور مبدأ المواطنة. فالفكرة ذاتها تشير إلى أن الوطن ملكية مشتركة بين مواطنيه بالتساوي، وأن القوة العسكرية والبوليسية هي صفة للمجتمع وليست صفة في ناس بذاتهم، وأنها يجب أن تخضع لسلطة نواب المجتمع.
والاستعمار الداخلي يبدأ في اليوم الذي تتمكن فيه طبقة تسيطر على أدوات القوة –خاصة البوليس– من اجتياح وتهميش تعجيز سلطة المجتمع. ولهذا تم ضرب استقلال القضاء وبالذات النيابة العامة، ويتم على نحو مستدام تزوير جميع الانتخابات العامة حتى لا ينتهي الاستيطان الدائم والأبدي للسلطة. وكل ما تفعله وزارة الداخلية بحق المواطنين هو تذكير يومي بهذه الحقيقة.
Share this Post