يتوجه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالشكر لوزارة التضامن على ردها على البيان المشترك الذي أصدرته ٢٥ منظمة حقوقية بتاريخ 10 يونيو الجاري في أعقاب زيارة لجنة مُشكَّلة بقرار من قاضي التحقيق للتفتيش على أنشطة المركز. ونود أن نُذكر الوزيرة هنا بطلب فتح حوار حول القانون 84 لسنة 2002 المُنظِّم لعمل الجمعيات، والذي أرسلناه للوزارة في أكتوبر الماضي ولم نتلق –حتى الآن– ردًا عمليًا على هذه الدعوة.
كانت الوزارة قد أوضحت في ردها على البيان المشترك للمنظمات الحقوقية فى 10 يونيو أن “اللجنة معينة من قاضي التحقيقات ولا دخل للوزارة بها”. ونفى البيان أن يكون لهذا الإجراء علاقة بالشهادة التى أدلى بها بهي الدين حسن مدير المركز أمام البرلمان الأوربي حول أزمة حقوق الانسان فى مصر. بينما تقول السيدة إيلينا فالنسيانو رئيسة لجنة حقوق الانسان بالبرلمان الأوروبى –والتى أدارت جلسة الاستماع بالبرلمان– أن الأمر يبدو انتقامًا من الشهادة التى قدمها حسن، وأنها تخشى أن هذا الاجراء “تكمن خلفه إرادة سياسية، وليس عملية قضائية خارجة عن سيطرة السلطة التنفيذية”.
إننا نؤكد على أن عمل مركز القاهرة –شأنه في ذلك شأن جميع المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان– يرتكز على احترام دولة القانون، بل إن نضال تلك المؤسسات على مدار 30 عامًا لم يكن سوى بهدف إرساء دعائم دولة القانون. وقد تعاملت تلك المنظمات مع الواقع السياسي المتغير من المنطلق نفسه، لم يختلف ذلك باختلاف الحاكم. كان مركز القاهرة وغيره من المنظمات الحقوقية المستقلة أول من دعوا للحوار مع الحكومة حول القضايا الرئيسية المختلفة، و بينها قضية حرية التنظيم وتحرير المجتمع المدني، وفي سبيل ذلك خاض مركز القاهرة عددًا كبيرًا من المفاوضات والحوارات مع الحكومات المتعاقبة منذ الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك حتى الحكومة الانتقالية بعد الثالث من يوليو، جدير بالذكر أنه بعد 3 يوليو 2013، خاضت المنظمات الحقوقية على مدار 6 أشهر حوارًا مع وزارة التضامن الاجتماعي خلال فترة تولي الوزير السابق د. أحمد البرعي حول مشروع قانون جديد للجمعيات الأهلية، والذي انتهى بمسودة تعتبر أقرب المسودات الحكومية للمعايير الدولية. وبعد أن قرر مجلس الوزراء تقديم هذا المشروع إلى البرلمان الجديد فور انتخابه، جرت الإطاحة بالوزير أحمد البرعى فى أول تعديل وزاري، واختفى أول وآخر مشروع قانون توافقى بين الحكومة والمنظمات الحقوقية، وقدمت الوزيرة الجديدة مشروع قانون جديد، لم يُكشف عن مصدره!
كما سعى المركز إلى إعادة فتح حوار مع وزارة التضامن الاجتماعي العام الماضي حول الموضوع ذاته، كما تقابل مدير المركز مع السيد رئيس مجلس الوزراء إبراهيم محلب في ٢٤ يوليو ٢٠١٤ في مقره بمجلس الوزراء بناءً على مبادرة من الأول وسلمه مذكرة موقعة من 23 منظمة حقوقية، كما أرسل المركز مذكرة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي فى 26 أغسطس الماضى. كل هذه المبادرات الساعية للحوار لم يتم الرد عليها، إلا إذا اعتبرنا الرد يتمثل في حملات التشويه الاعلامى المنهجية والوعيد والتحويل للتحقيق وصولًا للتهديد بالقتل.
بالنسبة لقضية التمويل الأجنبي والتي يزعم رد الوزارة أن ذلك الإجراء يأتى في إطارها، فإن المجلس الأعلى للقضاء كان قد بادر بالدعوة عام 2012 لإجراء تحقيق مستقل في كافة الملابسات والإجراءات المريبة والفضائح التي أحاطت بتلك القضية، والتى تضمنت تدخلًا مشينًا من أجهزة الدولة التنفيذية والأمنية فى مسار العملية القضائية، الأمر الذى أدى –حينذاك– إلى انسحاب القاضى المختص وإصداره احتجاجًا علنيًا. وقد طالب مركز القاهرة والمنظمات الحقوقية حينذاك في بيان مشترك فى مارس 2012 “بضرورة أن تشمل التحقيقات –التى دعا إليها المجلس الأعلى للقضاء– كل مراحل هذه القضية، بدءً من كيفية اختيار أسماء بعينها كقضاة للتحقيق في القضية، والتسريب العمدي للإعلام لمعلومات مغلوطة، أو غير صحيحة، أو منتزعة من سياقها، من ملف التحقيقات التي يُفترض سريتها، والتي جرى توظيفها في تسويق حملات التشهير بالمتهمين وبالمنظمات الحقوقية، ومحاصرتها باتهامات –نُسبت إلى قضاة التحقيق أو مصادر قضائية– تصل إلى حد التآمر على استقرار البلاد، وتوظيف العاطفة الوطنية لتأجيج حملة شعواء على منظمات حقوق الإنسان، لمعاقبتها على دورها في فضح جرائم حقوق الإنسان”.
إن من المريب إعادة فتح تلك القضية من جديد –التي اعتراها تسييسًا فظًا للعملية القضائية– في الوقت الذي تتضاعف فيه الشكوك حول مدى استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي عبر عنه خبراء مستقلون رفيعوا المستوى من الأمم المتحدة في بيانهم الصادر بتاريخ ٣١ مارس ٢٠١٤ حيث وصفوا بعض الأحكام بأنها تشكل “استهزاءً بالعدالة ذاتها”. وهو تحديدًا ما يثير قلق مركز القاهرة وكل الحريصين على المجتمع المدنى وسمعة النظام القضائى من إعادة فتح ملف تلك القضية، خاصةً في ذلك التوقيت.
أما عن عدم نية وزارة التضامن –وفقًا لبيانها– التضييق على عمل المؤسسات الحقوقية فهو أمر تنفيه الوقائع التي تمارسها الحكومة مؤخرًا. فقد شهدت الشهور الأخيرة انتهاكات متعددة تستهدف نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان، بدأت بإنذار وزارة التضامن الاجتماعي بتاريخ 18 يوليو 2014، وإعطاء مهلة حتى 10 نوفمبر للتسجيل الإجباري تحت مظلة قانون 84 القمعى سالف الذكر. واستمر ليشمل تهديدات لبعض المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان بالسجن والقتل أحيانًا، الأمر الذي دفع عددًا من أبرز المدافعات والمدافعين عن حقوق الإنسان لمغادرة البلاد، ودفع عددًا من المنظمات والمراكز الثقافية والحقوقية لتقليص، أو نقل بعض برامجها وأنشطتها خارج البلاد، مثلما فعل مركز القاهرة العام الماضى.
وقد طورت الحكومة هجومها على المنظمات الحقوقية بتكتيكات جديدة؛ استكمالًا لجهودها في القضاء على كافة الأصوات النقدية –إسلامية وعلمانية– أو تلك التي تقدم رؤىً مغايرة لرؤية الإدارة الحاكمة. وقد رصدت منظمات حقوقية مستقلة في بيان لها تلك الانتهاكات والتي كان منها على سبيل المثال منع قياديين بالمعهد المصري الديمقراطي من السفر على خلفية قضية التمويل الأجنبي، بالرغم من أن المعهد المصري الديمقراطي قد قام بالتسجيل كجمعية أهلية استجابةً لإنذار وزارة التضامن الاجتماعي المشار إليه. كما رفضت وزارة التضامن الاجتماعي تسجيل مؤسسة ضحايا الاختطاف والاختفاء القسري دون إبداء أسباب. كما تجاهلت الوزارة الرد على طلب مؤسسة الحركة المصرية للحقوق والحريات بالتسجيل تحت مظلة القانون، رغم مرور 60 يومًا على تقديم طلب التسجيل الأمر الذي عطل أنشطة المؤسسة، وحسب أحد المؤسسين يأتي هذا التعنت في الرد على طلب إشهار الجمعية على خلفية اعتراض غير مسبب للجهات الأمنية، كما رفضت وزارة التضامن الاجتماعي طلب تسجيل باسم المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، وطلبت من وكيل المؤسسين تغيير الاسم، بحجة أن المنظمة ستباشر عملها في مصر وليس “العالم العربي”، كما أن القضاء مستقل! وغيرها من الانتهاكات التي رصدها البيان سالف الذكر والتي تكشف عن إصرار الحكومة التضييق على حركة حقوق الإنسان بالكامل.
إن التوظيف السياسى اليومى للمؤسسة القضائية هو تدمير لأحد أهم منجزات بناء الدولة المصرية الحديثة. من المشين أن يجرى هذا التقويض تحت رايات “تعزيز” الدولة المصرية! لقد كان العالم يتعامل حتى وقت قريب مع المؤسسة القضائية المصرية باحترام كبير رغم كل نواقصها، ويعتبرها الأفضل نسبيًا فى العالم العربى. الآن صارت كثير من الأحكام الصادرة عنها لا تثير سوى الأسى والسخرية، حتى داخل العالم العربى.
أخيرًا، إن مركز القاهرة يأمل أن تُغلق الحكومة أبواب الوعيد والتهديد بالتوظيف السياسى والأمنى للقضاء أو بالقتل، وأن يرتفع صوت الحكمة والعقل، وأن تفتح فى المقابل أبواب الحوار الجاد لكل الأطراف السلمية دون إقصاء. تلك الأبواب التى دأب مركز القاهرة على طرقها دون مجيب. إن القمع المنهجى المنظم المتواصل ضد كل الأصوات المستقلة –إسلامية وعلمانية– والقوى المجتمعية المعادية للإرهاب، يؤدى يومًا بيوم إلى دفع مزيد من المواطنين إلى اليأس بجدوى التعبير السلمى، والالتحاق بصفوف التطرف. الأمر الذى يؤكده التصاعد اليومي فى عمليات العنف الفردي غير المنظم، من أقصى شمال مصر إلى أقصى جنوبها، بالتوازي مع هجمات الإرهاب المنظم فى سيناء. لابد من القيام بمراجعة شاملة قبل فوات الأوان، ووقف الانجراف لمزيد من تدمير قوى المجتمع ومن عدم الاستقرار، وحرث طريق مصر أمام قوى الفوضى والارهاب.
Share this Post