بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانأثار قرار البرلمان الأوروبي، في 18 ديسمبر/ كانون الأول، بخصوص الوضع البائس لحقوق الإنسان في مصر، آمالا كبيرة بشأن إمكانية إجراء تحسينٍ يخفّف من مدى بؤس الحال غير المسبوق في التاريخ الحديث لهذا البلد التعيس. وعزّز من هذه الآمال ما تضمّنه القرار من توصياتٍ غير مسبوقةٍ من البرلمان الأوروبي. تجسّد ذلك في صرامة لغة التوصيات، وفي عدم اكتفائها بالإدانة أو بالتوجه بالمطالب للحكومة المصرية. بل توجه أيضا بتوصياتٍ إلى دول الاتحاد الأوروبي، تطالب بإجراءاتٍ عقابيةٍ حازمة، مثل حثّ الدول الأعضاء على التقدّم لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بوضع حقوق الإنسان في مصر تحت رقابة آلية خاصة، وإجراء تحقيقاتٍ مستقلةٍ عن الدولة المصرية في الجرائم المرتكبة ضد حقوق الإنسان، وفرض إجراءاتٍ عقابيةٍ أوروبية على كبار المسؤولين المصريين عن ارتكاب هذه الجرائم. باختصار؛ يعكس القرار يأس أعضاء البرلمان الذين يمثّلون التيار الشعبي العام في أوروبا، من إصلاح الحال على يد الديكتاتور الحاكم في مصر. يرجّح تبلور هذا المزاج اليائس من تجاوب عبد الفتاح السيسي أن أغلبيةً كبيرةً اقترعت لصالحه (434 عضوا مقابل 49 صوتوا ضد القرار). لذلك لا يكتفي قرار البرلمان الأوروبي بالتوجه إلى السيسي بمناشداتٍ متكرّرةٍ بالإفراج عن سجناء الرأي، وبتكرار المطالبة بإصلاحاتٍ تشريعية، مثلما فعل البرلمان في قراراتٍ سابقة له. بل يتطلّع البرلمان، للمرة الأولى، إلى تحريك آليات ضغطٍ خارجيةٍ قوية، قد تُجبر الديكتاتور المتسلّط علي تقديم تنازلات ملموسة.
يعزّز من هذه الآمال أيضا توقيت صدور القرار مع تطوراتٍ مهمةٍ أخرى في الساحة الدولية، تتصل بمسألة حقوق الإنسان في مصر بشكل خاص، بينها انتخاب إدارة أميركية جديدة لها اهتمام نسبي معلن بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وتعهد الرئيس المنتخب جو بايدن، مبكرا في يوليو/ تموز الماضي، بربط المعونة الأميركية لمصر بذلك. وتطوّر دولي مهم ثالث، رفض إيطاليا في ديسمبر/ كانون الأول الجاري (أيضا) التراجع عن عقد محاكمة لمسؤولين مصريين عن إخفاء الأكاديمي الإيطالي، جوليو ريجيني، وتعذيبه وقتله، منذ نحو خمس سنوات. وتشكّل المسؤولية الجنائية للدولة المصرية أيضا تضليل سلطات التحقيق في الجريمة، بل وقتل خمسة مصريين أبرياء، لتحويل الانتباه عن المجرمين الحقيقيين. وعلى الأرجح، حين تنعقد المحاكمة في مقتبل العام الجديد سيكون قفص الاتهام خاليا من المتهمين الذين يرفض السيسي تسليمهم، لكن ذلك قد يحوّلها إلى محاكمة سياسية علي مرأى ومسمع من العالم كله لنظام الحكم الذي ارتكبت في ظله آلاف أخرى من جرائم الإخفاء والتعذيب والقتل بحق مواطنين مصريين، وتستّر فيها علي مرتكبيها. تجري هذه التطورات الثلاثة، بالتوازي مع تراكم شعور دولي بنفاد الصبر إزاء عدم اكتراث السيسي بالانتقادات المتوالية لجرائم حقوق الإنسان خلال سبع سنوات، واكتفائه بمراوغاته الكاذبة المتكرّرة. وربما كان أفضل تعبير عن نفاد الصبر سخرية عمدة باريس، آن هيدالغو، علنا، بالسيسي، في 8 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، فقد قالت إنها قبلت مقابلته، فقط لكي تبلغه بموقفها الحازم من قضايا حقوق الإنسان، ولتطالبه بالإفراج عن السجناء السياسيين. وقد قدّمت هيدالغو، في اليوم نفسه، إلى مجلس بلدية باريس اقتراحا بمنح المواطنة الفخرية إلى أربعة من أبرز أسرى سجون السيسي، واعتمد المجلس الاقتراح لاحقا.
ولكن من ناحية أخرى، يجب التسليم بأن هناك مسافة هائلة بين ذلك الانتعاش النسبي للآمال حول حقوق الإنسان في مصر وتحول هذه الآمال واقعا ملموسا. هذا التحول وثيق الصلة بمدى توفر الإرادة السياسية لدول أوروبا وأميركا. بالطبع، يجري انتخاب حكومات هذه الدول لتعزيز مصالح الشعوب التي انتخبتها. صحيحٌ أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان صارت وثيقة الصلة بهذه المصالح في أغلب هذه الدول، ولكن موقعها في سلّم الأولويات يختلف من حزب حاكم إلى آخر، فلا توجد دولة واحدة تحكمها “ملائكة”، وتشكل قيم حقوق الإنسان أولويتهم الأولى الموجهة ليل نهار إلى سياسات دولهم الداخلية والخارجية، بصرف النظر عن أي اعتباراتٍ وتحدّيات أخرى. إنها، في نهاية المطاف، مسألة نسبية، لكن ذلك لا ينتقص من أهمية ذلك التطور التاريخي، أعني وصول عدد معتبر من الدول المحورية إلى هذه المحطّة المتقدّمة في التاريخ الإنساني، وذلك بتبنّيهم حقوق الإنسان أولوية. حتى لو كان ذلك التطوّر التاريخي قد جرى عبر حرب دينية وثورات دامية وحربين عالميتين وتاريخ مرير من حروب الغزو والاستعمار وممارساتٍ وحشية أخرى، ففي نهاية المطاف صارت هذه القيم تشكّل تدريجيا أولوية متقدّمة في أغلبية دول الغرب، خصوصا فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان لمواطني الدولة ذاتها، كما صارت أحد المرتكزات المهمة للسياسة الخارجية لهذه الدول.
لم يكن ذلك ممكنا لولا إنجاز تاريخي آخر. أعني تشكّل عبر الزمان كتلة مجتمعية حرجة في كل دولة غربية على حدة، تؤمن بذلك قيميا، وقادرة على أن ترى في قيم حقوق الإنسان والديمقراطية عنصرا حيويا لا غنى عنه في صميم رؤيتها لنفسها ولعالمها ولمصالحها الحياتية المباشرة. ولذلك يتكوّن لدى هذه الكتلة الحرجة الحد الأدنى من التصميم والاستعداد للتضحية من أجل حماية هذه القيم، حتي لو كان ذلك الانتقاص منها يتمثّل في تعديل قانوني فرنسي، في ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بحظر تصوير رجال الشرطة. وقد كشف لنا وصول دونالد ترامب إلى رئاسة دولة ديمقراطية راسخة مدى تعقيد الصراع الداخلي حول مكانة حقوق الإنسان وموقعها في سياسات دول الغرب، فهو صراع ديناميكي، ويتفاوت من دولة إلى أخرى، كما تلعب دورا مؤثّرا، في هذا السياق، طبيعة الحزب أو الائتلاف الحاكم وقوى المعارضة الرئيسية. في المقابل، لا تشكل للأسف مسألة احترام حقوق الإنسان أولويةً لحكومات العالمين، العربي والإسلامي، سواء فيما يتعلق بحقوق شعب الدولة المعنية ذاتها أو بشعوب الدول الأخرى. وهذا لا ينفى أن حقوق الإنسان والديمقراطية هي أحد المطالب الحيوية الصاعدة بشكل متزايد للشعوب في العالم العربي، خصوصا في وقت الأزمات الكبرى، مثل الربيع العربي. وقد تشكّل أولوية دائمة لنخبةٍ محدودة العدد، ولكن يصعب القول إنها أولوية متقدّمة لشعوب المنطقة.
إحدى المفارقات المذهلة في الأسابيع الأخيرة ردّة الفعل الناقمة لكتّاب في الصحف وناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي على إيلاء بعض دوائر الحكم والرأي العام في الغرب اهتماما فائقا لمطلب الإفراج عن ثلاثة حقوقيين مصريين، من دون أن يشمل هذا الاهتمام آلافا آخرين محتجزين ظلما في السجون قبل الحقوقيين الثلاثة بسنوات.
وجه المفارقة ليس فقط في أن هناك توافقا عالميا مستقرّا عليه، في أن الأولوية يجب أن تُمنح لمن يدافع عن الآخرين متجرّدا من أي مصلحة ذاتية أو سياسية أو دينية. وجه المفارقة أيضا ليس فقط في أن الغرب قد تحوّل، بين يوم وليلة، في نظر بعض الكتاب الساخطين من تجسيدٍ للشيطان الأعظم والعدو الأخطر للإسلام والمسلمين إلى “بابا نويل” المنتظر منه أن يُمارس ضغوطه من أجل الإفراج عن 60 ألف سجين! وفي تقديري أن وجه المفارقة الأهم أن أحدا لم يحاكم ما سمّاه، في سياق آخر، المفكر السوري برهان غليون “عطب الذات”. أعني عدم وجود قوة دفع مجتمعي، في مصر وأغلبية الدول العربية، تشكل رقما يأخذه الحاكم العربي أو الغربي بالاعتبار، عندما يتّخذ قراراته ذات الصلة بحقوق الإنسان.
هذه الفجوة الهائلة بين الحالة المأساوية لحقوق الإنسان في العالم العربي، وتدنّي أولوية حماية هذه الحقوق لدى حكومات المنطقة وشعوبها ليست منفصلة عن الإجابة عن السؤال الخاص بمدى توفر الإرادة السياسية في أوروبا وأميركا للضغط من أجل احترام حقوق الإنسان في مصر. عندما تثير المنظمات الحقوقية المصرية قضايا حقوق الإنسان مع الشخصيات والأطراف الدولية ذات الصلة؛ هناك سؤال آخر مواز يفرض نفسه أحيانا، عن تقييم مدى توفر قوة دفع شعبي في مصر نحو احترام حقوق الإنسان؟ أو على الأقل نحو التوقف عن ارتكاب بعض أبشع جرائمها، مثل قتل رجال الأمن ألوف المواطنين المسالمين؟ أو تحوّل بعض المحاكمات مجازر آلية تصدر أحكام إعدام بالجملة؟ أو إخفاء الآلاف، وتعذيب آلافٍ آخرين، وسجن عشرات الألوف من الأبرياء؟
عندما أعود بالذاكرة إلى 35 عاما، حين شاركت مع آخرين في تأسيس أول منظمة معاصرة لحقوق الإنسان في مصر، فإنني أرصد بفخر كم ارتفع ويرتفع باضطراد وعي المصريين كأفراد بحقوق الإنسان، كمّا ونوعا، خصوصا بين الأجيال الجديدة.
وهذا لا يعني أن الفضل في ذلك هو للمنظمات الحقوقية وحدها، فلقد لعبت العولمة دورا حيويا في هذا السياق في مصر، وكذلك في كل أرجاء العالم، فضلا عن بعض الكتاب والمفكّرين. لكن انتشار الفكرة وتعمّق الوعي بها، وتحلّق مجموعاتٍ حولها من أجل ترويجها والدفاع عنها، وكسب أنصار آخرين كل يوم لها، وتوفّر الاستعداد لدى عدد متزايد من المصريين، لدفع ثمن باهظ من أجل الدفاع عن حقوق آخرين لا يعرفونهم، وربما لا يشاركونهم آراءهم أو معتقداتهم السياسية أو الدينية، بل قد يختلفون بحدّةٍ معهم حولها، لا يكفي وحده لتحوّل حقوق الإنسان إلى قوة دفعٍ مجتمعيٍّ تسعى إلى ضمان احترام ولو حتى الحد الأدنى منها. ذلك يتطلّب تشكّل تلك الكتلة المجتمعية الحرجة، وهو ما لم يحدث للأسف بعد في أي دولة عربية. يمكن القول إن تونس تشهد في السنوات العشر الأخيرة تراكما مهما في هذا الاتجاه على الرغم من هشاشته، لكن مصر شهدت، على النقيض في الفترة نفسها، إجهاضا منهجيا مبكّرا لمخاض التشكل التاريخي لهذه الكتلة. والمسؤولية التاريخية عن هذا الإجهاض لا تتحملها فقط المؤسسة العسكرية التي تولت حكم مصر عمليا منذ تنحّي الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في 11 فبراير/ شباط 2011، فقد جرت عملية الإجهاض بعد أسابيع قليلة من انتفاضة يناير بمساهمةٍ متبادلة، على مدار عامين ونصف العام، من مختلف الأطراف التي ساهمت في الانتفاضة. لتبدأ بعد ذلك عملية دامية متواصلة سبع سنوات لقطع الطريق على أي إرهاصاتٍ محتملة لإعادة تشكل هذه الكتلة.
هناك بالطبع قوة دفع مجتمعي ملحوظة في مصر والعالم العربي، من أجل الدفاع عمّا قد يعتبره بعضهم إهانةً للإسلام أو رموزه المقدسة. لمسنا أحدث تجليّاتها أخيرا عندما تكرّر نشر رسوم كرتونية في فرنسا لنبي الإسلام. بصرف النظر عن تقييم مدى قدرة أي رسم كاريكاتيري علي إلحاق الأذى بدين يؤمن به مئات الملايين في أرجاء العالم، فإنه يلفت الانتباه عدم وجود أي مظهر لقوة دفع مجتمعي، من أجل حمايةٍ يحتاجها بالفعل الإسلام كدين، حين يتعرّض، في الوقت نفسه، ملايين المسلمين في الصين لقمع وحشي ضارٍ بغرض إجبارهم على التخلي عن معتقداتهم الدينية! للأسف، لم يحدُث رد فعل يتسق مع جسامة التهديد للإسلام دينا، والمتمثل بإجبار ملايين قسرا على نبذه. حتى ولو بردّ فعلٍ رمزي بالاحتجاج على صمت الحكومات العربية الإسلامية المتواطئ علنا، والذي بلغ تقديم دعم كبرياتها السياسي/ اللاأخلاقي الصين في الأمم المتحدة، مساندة لها في مواجهة المطالبة الجماعية من دول الغرب بإدانتها، وبالتضامن مع الأقلية المسلمة في الصين.
بالطبع؛ تلقي هذه المفارقة أضواء إضافية على مدى قصور الدافع المجتمعي لحماية حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي، حتى عندما يتعلق الأمر بأهم العوامل المؤثرة تقليديا في تشكيل وجدان الإنسان في هذه المنطقة، أي الدين.
مبكّرا جدا، لفت نظرنا الراحل محمد السيد سعيد (أحد أهم المؤسّسين النظريين لفكر حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي عقدين) إلى وجود عقباتٍ في الثقافة التقليدية السائدة في المنطقة، تلعب دورا مؤثّرا في إعاقة تبلور قوة للدفع المجتمعي نحو احترام حقوق الإنسان، وتقدّم بذلك خدمةً مجانيةً لتغوّل النظم التسلطية في المنطقة. في مواجهة احتجاج عشرات ألوف الضحايا في مصر ودموع مئات الألوف من عائلاتهم، وتعاطف ملايين معهم، لا يستند السفاح عبد الفتاح السيسي إلى مدافع دباباته. قد تكون هي خط دفاعه الأخير، لكن خط دفاعه الأول والأقوى من دباباته هو الثقافة السياسية والدينية السائدة التي تكرّس العبودية للمستبد، وحتى لو لم يكن عادلا. وإلى أن تلتفت منابر الثقافة والفكر إلى مهمتها التاريخية المؤجّلة في هذا المجال، وتتوافق الجماعات والأحزاب السياسية الحية في مصر على برنامج حد أدني لحقوق الإنسان، لا يبقى أمام الضحايا سوى التطلع إلى منظمات حقوق الإنسان لمخاطبة دول الغرب بشأن حالاتٍ فرديةٍ هنا وهناك من بين عشرات ألوف الضحايا. أو مراقبة الانتخابات العامة في دول الغرب بشغف، بأمل أن تأتي بحكوماتٍ أكثر اهتماما بحقوق الإنسان في مصر. أو التطلع بأمل أن تحاكم محاكم أوروبية أخرى وأميركية ضباط أمن مصريين على جرائمهم، بما قد يردع زملاءهم وكبيرهم في مصر. أو انتظار أزمة اقتصادية أو سياسية كبرى تستبدل السفاح بجنرال آخر أقلّ دموية.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post