بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان«عندما يؤرخ التاريخ لثورة 25 يناير، فإن التاريخ سيذكرها بوصفها الثورة التى اهتمت بتنظيف «ميدان التحرير»، وأهملت كنس النظام القديم، وفى كلتا الحالتين، كانت محل تقدير المجلس العسكرى». (من مقال للكاتب بعد 8 شهور من تنحي حسني مبارك)
بعد عشر سنوات من انتفاض عشرات الملايين في ستة دول عربية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية فيما عرف بالربيع العربي، تواجه الشعوب وضعا أكثر بؤسا مما كانت عليه. ففي البحرين تعززت القبضة القمعية للأقلية السنية الحاكمة. وخضعت مصر لأكثر نظم الحكم العسكرية وحشية ونهبا لاقتصادها في تاريخها الحديث. وصارت اليمن وليبيا نهبا لصراعات مسلحة داخلية وحروب بالوكالة لحساب أطراف اقليمية ودولية. بينما صارت سوريا ساحة لحرب أهلية متعددة الأطراف ولقمة سائغة لاحتلالات أجنبية. في تونس، التي تعتبر النموذج الوحيد لانتصار الربيع والديموقراطية، خرجت في الذكري العاشرة مظاهرات احتجاج في ستة مدن علي تدهور الحالة الاقتصادية وبؤس أداء النخبة السياسية الحاكمة المنتخبة ديموقراطيا، وأعلن أحد أبرز رموز المعارضة اعتذاره لزين العابدين بن علي الذي سجنه عندما كان يحكم تونس بقبضة حديدية منذ عشرة سنوات، بينما اتهم عياض بن عاشور (أحد أهم المسئولين عن عملية الانتقال بعد الثورة) رئيس الجمهورية الحالي بأن مواقفه مثيرة للانقسام وتتعارض مع مبادئ الثورة.
وصول المنطقة لهذا الوضع المأساوي بينما كانت تحاول أن تزيح أنماطا متنوعة من حكم القرون الوسطي ومن فساد النخب الحاكمة، لم يكن متوقعا بالطبع. أيضا لم يكن ممكنا لولا الشراسة اللامحدودة لهذه النخب الحاكمة، وتبلور تحالف اقليمي بقيادة السعودية والامارات العربية المتحدة، ينظر للربيع العربي باعتباره خطرا يتهددها، ومن ثم عليها أن تحاربه، رغم أن موجاته توقفت عند البحرين. لعب هذا التحالف دورا حيويا في مساندة الثورة المضادة في المنطقة، من خلال توظيف فائض عائدات النفط لدعمها، وقام بالتدخل العسكري المباشر في البحرين واليمن وليبيا، وضغط من أجل اقناع الاتحاد الأوروبي وأمريكا بالتسامح إزاء أعمال القمع الوحشي لأعمال الاحتجاج والتدخل المسلح، والاكتفاء ببيانات ادانة روتينية.
لكن من ناحية أخري، لم يكن أداء النخب السياسية المعارضة التي اعتلت موجات الربيع العربي يشكل عائقا أمام إعصار الثورة المضادة، بل لم يكن بمستوي المهمة التاريخية للربيع، ولا للأسف بمستوي التضحيات الهائلة التي قدمتها الشعوب العربية التي ظنت أن ساعة الخلاص قد حانت، وأن الحواجز التي تحول دون أن تحتل مكانها المناسب تحت شمس التقدم بجانب شعوب حرة في العالم قد بدأت في التداعي تحت أقدامها. للأسف، ربما كان أداء النخب المعارضة عاملا مساعدا للثورة المضادة.
يقول المفكر السوري برهان غليون أول رئيس منتخب لمجلس المعارضة السورية عام ٢٠١١ في كتابه ”عطب الذات“ الصادر منذ عامين، أن هذه النخب فشلت تماما في العمل الجماعي المنظم. وأنها بعد أن ارتقت في الأيام الأولي لانتفاضات الربيع العربي إلي مستوي من السمو الأخلاقي المذهل، ارتدت إلي عصر التوحش والبدائية في نهاياتها. وفي تقييم له منذ أيام يقول محمد البرادعي أبرز الرموز العلمانية للربيع العربي في مصر؛ لقد فشلت هذه النخب في التوافق علي رؤية وخريطة طريق والقيم الأساسية للدولة. لا ينحصر التقييمين بسوريا ومصر، بل ينطبقان أيضا وإن بدرجات متفاوتة علي اليمن وليبيا. تونس أفلتت إلي حين، بفضل توافقها النسبي منذ الأسابيع الأولي علي خريطة طريق وعلي القيم الأساسية. ساعد علي ذلك أن جيشها ليس له طموح سياسي واقتصادي مثل الجيش المصري، وأن حركة النهضة الاسلامية تتميز بانفتاحها السياسي وبرجمايتها، مقارنة بجماعات الاسلام السياسي في مصر وسوريا. مع ذلك، تظل تونس مثالا اضافيا علي الفشل في العمل الجماعي، ليس فقط بين الاسلاميين والعلمانيين، بل أيضا داخل كل تيار علي حده.
كان رائعا وتطورا ملفتا في سياق صيرورة الربيع العربي، اهتمام قوي موجته الثانية بالتعلم الجماعي واستخلاص الدروس خلال مراقبتها لتفاعلات الموجة الأولي ولردود الفعل عليها. أحد أهم الدروس الحصيفة التي استخلصتها الموجة الثانية هو الأهمية الحاسمة للحفاظ بكل الوسائل علي سلمية التمرد الشعبي مهما كانت قسوة أعمال القمع من جانب الحكومات وأعوانها من الجماعات غير النظامية. أيضا أهمية تجنب الوقوع في خلافات علنية بين أطرافها. لكن يبدو أن صعوبة التوافق علي القيم الأساسية بين قوي الموجة الثانية للربيع العربي لم يساعد علي تطوير الحرص علي تجنب الخلاف العلني إلي درجة تسمح بتشكيل قيادة سياسية ائتلافية ووضع خريطة طريق بديلة في العراق والجزائر ولبنان. رغم هشاشة العملية الانتقالية، فإن السودان يشكل استثناء في الموجة الثانية، وذلك بفضل تراثه العريق في الكفاح من أجل الديموقراطية ضد الحكم العسكري منذ عام ١٩٦٤، والذي يستند لتقاليد راسخة في الكفاح المشترك بين المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ولثقافات عرقية منفتحة وحد أدني من التوافق القيمي، لكن الاسلاميين السودانيين ليسوا طرفا في هذا التوافق السياسي والقيمي.
ما جعل مهمة الربيع العربي أكثر صعوبة، هو أن مشكلة بعض نخب المعارضة الاسلامية والعلمانية لا تنحصر فقط بما تختلف عليه، بل تمتد أيضا إلي بعض ما تتوافق عليه. قطاع من هذه النخب وخاصة الأكبر سنا منها لا يعيش عالمه، بل عوالم متخيلة. ففي حين أن مراكز التفكير في العالم تتهيأ ”للقرن الصيني“ ولعالم تسوده الصين سياسيا واقتصاديا، فإن قطاعا من الاسلاميين مازال مهموما بإعادة إحياء عالم يعود إلي أكثر من ألف عام مضي. من ناحية أخري مازالت روافد متعددة من النخب العلمانية لم تغادر بعد مرحلة التحرر الوطني والحرب الباردة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وشعاراتها، حين كانت جيوش الاحتلال البريطاني والفرنسي تتقاسم بلدان المنطقة، بينما تتأهب الامبريالية الأمريكية الصاعدة لوراثة دورهما. رحل الاحتلال القديم، بينما تتقاسم الآن بعض بلدان المنطقة جيوش احتلال روسية وايرانية وتركية وإماراتية، وفرق مرتزقة سودانية وتشادية وسورية وروسية، وميليشيات طائفية شيعية تتحرك بأوامر إيران، إلي جانب استمرار الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين والجولان وبقايا قوات الغزو الأمريكي للعراق. بالتوازي كونت القوي الحاكمة نمطا من ”الاستعمار الداخلي“ في دول عربية، علي النحو الذي سلط عليه الأضواء برهان غليون وآخرين قبل وبعد الربيع العربي. يصف غليون حال الشعب السوري تحت حكم حزب البعث بأنه ”حرم من أي شكل من أشكال التنظيم الذاتي، في القري والمدن والأحياء، واستعمرت مؤسساته المدنية والسياسية والاقتصادية، واحتلت من الداخل“. هذا الواقع لا يختلف كثيرا عن عراق صدام حسين، ومصر السيسي، وسودان عمر البشير، وإيران الاسلامية. ربما قد يكون من المفيد التعلم من الأفارقة الذين رفعوا شعار ”الاستقلال الثاني“، ليس فقط تمييزا لمرحلة الكفاح من أجل الديمقراطية عن الكفاح من أجل التحرر من المستعمر الأجنبي، بل أيضا بإعتباره كفاحا في مواجهة من أنجزوا ”الاستقلال الأول“ وانحرفوا به في مواجهة شعوبهم وورثوا دور المستعمر الأجنبي. من المفارقات الملفتة في سياق بعض انتفاضات الربيع العربي رفع في المظاهرات صور الرموز التي واصلت جلد شعوبها بسياط ”وطنية أو دينية“ بعد أن حررتها من سياط المستعمر. قد يكون مثيرا للأسي لدي من مازالوا من النخب العربية يؤمنون بأن المسألة الفلسطينية هي أم قضايا التحرر، تأمل كيف تحول قادة في منظمة التحرير الفسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلي أمراء بانتوستانات تؤمن الاحتلال الاسرائيلي وتقمع النشاط السلمي الناقم علي فساد وتسلط المؤسسات الفلسطينية والرافض لتحول الضفة الغربية وغزة إلي بانتوستانات في نظام للفصل العنصري. لكم اختلف العالم العربي خلال نصف قرن!
عدم إدراك بعض النخب الاسلامية والعلمانية بدرجة كافية لحجم التغيرات الهائلة التي لحقت بالعالم والمنطقة يحاصرها بعوالم متخيلة، تزكي لها حلولا ايدولوجية ربما كانت تصلح للزمان الذي تبلورت خلاله هذه العوالم، لكنها لاتصلح لزمانها ولا للتعامل مع التحديات المعاصرة. بل هي في المقابل تمنح أحجاما غير واقعية لمشاكل بعينها علي حساب تحديات رئيسية، خاصة الاقتصادي منها. فجوهر انتفاضات الربيع العربي هو السعي لانتزاع الكرامة المستلبة في الدولة والمجتمع والأسرة. أي التمتع بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية والمساواة السياسية والحرية الفردية بصرف النظر عن اعتبارات العرق والجنس والأصل الاجتماعي. إحقاق ذلك يتطلب أولا عدد من الترتيبات السياسية والدستورية والتشريعية والقضائية. وثانيا بناء اقتصاد ديناميكي قادر علي تعزيز الموارد وخلق الثروة للمجتمع ككل، وبالتالي خلق فرص عمل جديدة بشكل دائم وتطوير نظام تعليمي وصحي كفؤ. هذه مهمة لا يكفي للوفاء بها شعارات طيبة مهما كان سحرها ”عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية“، بل تحتاج خططا مدروسة ترتكز لمعلومات حقيقية من أجل ترجمة هذه الشعارت لواقع علي الأرض. الشق الأول كان دائما محل تركيز النخب المتمردة، لكن للأسف نادرا ما التفتت إلي الشق الثاني، إلا من خلال شعارات ووعود بالعدالة الاجتماعية دون أن تبين كيف سيمكنها ذلك؟ تونس مثال تطبيقي واضح، حيث وصلت نخب المعارضة للحكم منذ عشر سنوات ولكن بجعبة خالية إلا من الشعارات.
الميل الجارف لدي بعض النخب العلمانية والاسلامية إلي اعتناق دون تمحيص نمط ”رأسمالية الدولة“ هو عائق آخر. رأسمالية الدولة تعني ببساطة مركزة الثروة في أيدي بيروقراطيتها وليس ملكية الشعب المخدوع. كل تركيز للثروة في أيدي بيرقراطية الدولة أو جيشها أو احتكارات رأسمالية خاصة يخلق بشكل أوتوماتيكي مقاومة شرسة لكل مشروع سياسي يطمح لنمط لا مركزي ولتمكين الناس والمجتمع من خلال تأسيس نظام ديموقراطي حقيقي. أخشي أن تبني بعض النخب لهذا النمط، هو بمثابة الخطوة الأولي علي طريق تأبيد النظام القديم السياسي المتسلط والاقتصادي الفاشل والفاسد.
لقد فاقمت أزمة كوفيد-١٩ من أزمة العالم العربي، ليس فقط علي الصعيد الصحي، بل تتوقع الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية أن تؤدي الأزمة الصحية وانهيار أسعار النفط إلي مفاقمة الأزمة الاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية في الدول المصدرة والمستوردة للنفط علي السواء. يرتكز هذا التوقع علي تقييم تلك المؤسسات الدولية السلبي لأنماط النمو الاقتصادي السائدة في المنطقة، والتفاعل المرجح بين الآثار الاقتصادية وبين أزمة انعدام الثقة المزمن بين الشعوب وأغلبية الحكام في المنطقة. ولذا يحذر تقرير للأمم المتحدة من حدوث اضطرابات سياسية يتفاوت حجمها وتأثيرها من دولة لأخري. جدير بالملاحظة في هذا السياق، أنه حتي عشية انطلاق الربيع العربي، كانت أغلبية المؤشرات الدولية لقياس النمو الاقتصادي والتفاعلات السياسية معقولة. المؤشر الوحيد الذي كان يبث اشارة سلبية محذرة، هو ذلك المتعلق بمستوي رضي الشعوب عن نمط حياتها في العالم العربي. بعد انطلاق الربيع العربي عاد هذا المؤشر للارتفاع، لكنه منذ عام ٢٠١٥ في حالة تراجع مستمر، رغم أن القياس لايشمل الدول الثلاث التي تشهد صراعات مسلحة وحروب أهلية (سوريا واليمن وليبيا)، ورغم أن المؤشر يرتفع في باقي مناطق العالم.
قد تظن بعض عناصر نخب الربيع العربي أن ذلك ”بشرة خير“ لانتفاضات جديدة، لكني لا أظن أن ذلك يحمل خيرا في السياق المأزوم الحالي علي صعيد الحكم ونخب المعارضة في العالم العربي.
لقد قامت نخب الربيع العربي بدور تاريخي تقدمي مهم، ولكن آن الأوان لإعادة تقييم شاملة، وتطوير ثقافة سياسية جديدة، وطرق مختلفة في العمل، واقتراب ملموس ومعمق من الواقع وليس عوالم متخيلة، ودراسة هذا الواقع علميا، وتحويل الشعارات الجميلة بناء علي ذلك إلي خطط عمل قصيرة وبعيدة المدي.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post