تدفع خبرة التعامل مع النظام السياسي المصري وحكوماته المتعاقبة طوال السنوات الماضية العديد من السياسيين والمثقفين وأيضا رجال القانون إلى استقبال كل قرار يصدره هذا النظام أو خطوة يتجه إليها بكثير من التساؤلات –والشكوك أحيانا- وكثير من المخاوف والاتجاه لبحث إشكاليات هذا القرار أو تلك الخطوة، خاصة وأن النظام السياسي في مصر لم يعتد إشراك شعبه أو قواه الحية فيما اتخذه ويتخذه من قرارات، وقد تجسدت تلك الحالة بوضوح في التعامل مع قرار الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور الخاصة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية وهو القرار الذي عدَّه البعض انقلاباً أو مفاجأة كبرى، فيما اعتبر الكثيرون أنه لا يمثل في حد ذاته نهاية المطاف في عملية الإصلاح، مشيرين إلى أنه وكي يكتسب التعديل قيمته الفعلية، فإنه يجب أن تصاحبه سلسلة من الإجراءات، في مقدمتها إنهاء حالة الطوارئ وتوفير ضمانات انتخابات حرة ونزيهة وإطلاق حرية نشاط الأحزاب ورفع الحصار المفروض عليها ورفع القيود على النشاط الجماهيري السلمي وإنهاء سيطرة الحزب الحاكم على أجهزة الإعلام وإطلاق حرية إصدار الصحف وحرية التعبير والوصول المتكافئ لكل الأطراف الانتخابية لأجهزة الإعلام وحق الحصول على المعلومات وتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية بما يسمح بتوفير بعض مقومات بيئة صالحة للمنافسة السياسية الحقيقية وليست الشكلية.
ويؤكد الخبراء أن هذه المطالب ضرورية التنفيذ حتى لا يعود الاستفتاء بقناع الانتخاب، وفي إطار هذه المطالب دارت مناقشات ندوة: “حتى لا يعود الاستفتاء بقناع الانتخاب .. بعد أن تكرس نظام الحزب الواحد من خلال تعدد الأحزاب” التي نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وأدارها بهي الدين حسن مدير المركز. وتساءل بهي في بدايتها عما إذا كانت المبادرة المطروحة لتعديل المادة 76 من الدستور يمكن أن تقودنا فعلا إلى اختيار رئيس الجمهورية بطريقة الانتخاب الحر المباشر أم أنها يمكن أن تكون عملية استفتاء تأخذ الجانب المظهري للانتخاب؟!
وأشار إلى أن ما يدفع لطرح مثل هذه التساؤلات وغيرها هو تلك الأفكار التي صدرت عن قيادات الحزب الحاكم كتجسيد لمبادرة مبارك على أرض الواقع. ومن هذه الأفكار ما تم الإعلان عنه من ضرورة توافر شرط الجدية للترشيح لمنصب الرئيس، متسائلا عن المقاييس التي يضعها هؤلاء لقيام هذه الجدية ومدى توافرها في أي من المرشحين، وربط بهي بين هذه الأفكار وبين ما يجري في تونس لاختيار رئيس الجمهورية، حيث يردد المراقبون أن الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي يرشح نفسه ويختار منافسيه؛ وبالتالي تنتهي النتيجة بفوزه بالانتخابات بنسبة تتراوح بين 94 و97% في كل مرة.
أضاف بهي أن ما يثير المخاوف أيضا في الحالة المصرية هو الأمور التي تتعلق بإمكانية تمتع المرشحين للرئاسة بفرص متساوية في الوصول لوسائل الإعلام بشكل خاص، وما إذا كانت المواجهة الانتخابية في حال عدم توافر هذه الفرص مباراة بطل وكومبارس من حوله يكملون الصورة.
استطرد بهي مضيفا إلى مخاوفه أيضا من استمرار سريان حالة الطوارئ بما يفرض قيودا واسعة على نشاط الجماهير والأحزاب العادي، وبما جعل أحزاب المعارضة عاجزة عن انتزاع الموافقة على عقد مؤتمر جماهيري في أي مكان متسائلا عن الحال بالنسبة لانتخابات الرئاسة، والحال كذلك في الأوقات العادية.
وعرج بهي على شرط موضوعي آخر مفتقد في مصر وهو الحياة السياسية فيها، واصفا تلك الحياة بأنها ميتة تقريبا منذ نصف قرن، بما لم يتح بروز أي شخصية يمكن اعتبارها قومية، ومعروفة على المستوى القومي إلى جانب رئيس الدولة، وقال بهي: هل الفترة المحدودة المتبقية حتى أكتوبر القادم كفيلة بإبراز مثل هذه الشخصية، مشيرا إلى أنه حتى لو تم توفر فرص الوصول للإعلام، وألغيت الطوارئ فإن قصر المدة المتبقية يحول دون تحقيق منافسة حقيقية للانتخابات.
مناخ غير مناسب
وتناول أطراف الحديث الدكتور ثروت بدوي أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة، فأشار إلى ما تنطوي عليه مبادرة الرئيس مبارك لتعديل الدستور من كوارث وليس فقط مجرد التخفي تحت قناع الانتخاب الديمقراطي الحر، وقال بدوي إن هذا التعديل يهدف إلى تدعيم وتأكيد السلطات المطلقة الممنوحة لرئيس الدولة بالفعل. قال الدكتور بدوي إن القضية ليست في ضيق الوقت المتبقي أمام المرشحين ولا في محاولات إفراغ المبادرة من مضمونها لوضع العراقيل أمام الراغبين في الترشيح، ولكن القضية هى أن المناخ الحالي لا يسمح سوى باكتساح الرئيس مبارك للانتخابات بأكثر من 90%.
أكد بدوي أنه لا يمكن إجراء انتخابات حقيقية أبدا إلا في ظل مناخ حر وديمقراطي وإتاحة الحريات كاملة للمواطنين بلا تفرقة وليس فقط إلغاء حالة الطوارئ، ولكن أيضا تنظيم السلطات بحيث يكون لكل سلطة صلاحياتها الخاصة بينها والفصل بين السلطات، بما يجعل كل سلطة رقيبة على السلطة الأخرى ومسئولة أمامه أو أن يكون الجميع من الحكام والمحكومين خاضعين لسلطة القانون، مؤكدا أن تركيز كل السلطات في يد شخص واحد لا يمكن أن يأتي بمرشح حقيقي أمامه ولن يأتي سوى بالراغبين في الفرقعة والدعاية أو “الغاوين” دخول كل انتخابات.
أشار دكتور بدوي إلى أنه يهاجم نظام الاستفتاء منذ عام 1958 ومنذ ظهور كتابه “النظم السياسية” في نفس العام موضحا أن الأنظمة الديكتاتورية تلجأ لمثل هذه الوسائل –كالاستفتاء- للادعاء بأنها نظم ديمقراطية، ودعا بدوي إلى تضافر كل الجهود من جميع القوى في سبيل إقناع الرئيس مبارك بأنه قد آن الأوان لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي وإحداث التغيير الديمقراطي بأسرع وقت ممكن، مشيرا إلى أن الأوضاع السياسية الداخلية هى أكثر ما يثير شهية الخارج للتدخل في شئون الداخل.
وأكد بدوي أنه ما لم تأخذ مصر بالتغيير الديمقراطي الحقيقي فإنها مهددة بمصير كمصير العراق، خاصة في ظل مخطط صهيوني أمريكي منذ أكثر من نصف قرن يستهدف تدمير كل شئ وتخريب مصر وغيرها من البلاد العربية، لتكون لأمريكا وإسرائيل السيطرة الكاملة عليهم.
وطالب الدكتور بدوي بالامتناع عن دخول الانتخابات الرئاسية والتوجه للرئيس مبارك لتغيير الدستور كله، مشيرا إلى أن النظام السياسي يجب أن يقوم على مجموعة من النظم والقواعد والأجهزة والأوضاع المترابطة المتجانسة التي تتداخل فيما بينها، بحيث تقيم نظاما منسجما، مؤكدا أن النظام السياسي لن يعيش بدون وجود كل هذه القواعد بترابطها وتجانسها وثباتها.
البيئة السياسية
وشدد عبد الله خليل المحامي والخبير في حقوق الإنسان على أهمية تغيير البيئة السياسية المحيطة بالانتخابات متناولا ما يسمى بالروابط العشرة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما تحددها مجالات مراقبة الانتخابات. وقال خليل إن أول هذه الشروط هو مبدأ عدم التمييز، مشيرا إلى أن وضع شرط الجدية للترشيح هو أمر يخالف مبدأ عدم التمييز الذي تنص عليه المعايير الدولية.
استمر خليل في عرض الشروط العشرة ومطابقتها بالواقع في مصر فأشار إلى أن ثاني هذه الشروط يتمثل في مبدأ حرية الرأي وحرية اعتناقه إلى جانب شرط حرية التعبير عن هذه الآراء، مشيرا إلى وجود قوانين في مصر تصادر هذه الحقوق وتبدأ من قوانين التعليم ولوائح الاتحادات الطلابية التي تصادر المشاركة السياسية منذ البداية في مصر، مضيفا إلى ذلك وجود توسع كبير في مجال التجريم في قانون العقوبات ومصادرته لحق إصدار الصحف وامتلاك الدولة للصحف القومية إلى جانب قوانين كقانون سرية الوثائق، مشيرا إلى أن الأصل في حرية التعبير في مصر هو السرية وليس الحرية.
أضاف خليل أن من شروط نزاهة الانتخابات أيضا الوصول المتكافئ لوسائل الإعلام والتغطية الإعلامية المحايدة للانتخابات، وهى الأمور المفتقدة في مصر، مشيرا إلى أهمية توافر حقوق الإنسان في التجمع السلمي، وإقامة التظاهرات الانتخابية بشكل متساوٍ ومتكافئ، وهو أيضا ما تفتقده البيئة السياسية المصرية، حيث القوانين المانعة لذلك كقانون التجمهر.
استطرد خليل في ذكر الشروط ومنها استقلال القضاء الفعلي وليس النصي، موضحا خطورة عبارة الإشراف القضائي المستخدمة في مصر، حيث تتعامل الدولة في هذا الشأن مع النيابة العامة والنيابة الإدارية باعتبارهما من ضمن الوظائف القضائية، مشيرا إلى أن بقية الشروط تتمثل في جهة تكوين الأحزاب والقيام بالأنشطة الانتخابية كتثقيف الناخبين فيما تخضع هذه الأمور في مصر لسلطة وزارة الداخلية.
وأنهى خليل هذه الشروط بشرطين هامين هما إلغاء أو تعليق القوانين السارية التي يمكن أن يكون لها أثر في إحباط المشاركة السياسية كقانون الطوارئ في مصر إلى جانب تأمين حريات المشاركين في الانتخابات، وممارسة هذه الحريات دون خوف أو ترهيب وعدم الخوف من البلطجة والترهيب أو استعمال العنف من قبل أجهزة الأمن.
أكد خليل أن البرلمان في مصر هو نتاج مناخ فاسد، وبالتالي فلن يفرز سوى مقاييس وشروط تعبر بشكل واضح عن هذا الفساد في تحديد ضمانات الترشيح للرئاسة.
واتفق الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والجامعة الأمريكية في بداية حديثه، مع القول بالتشكيك في أن يؤدي التعديل المقترح للمادة 76 من الدستور لإيجاد انتخابات حرة بالفعل، مشيرا إلى أنه ولكي يتم تجنب النموذج التونسي والاقتراب من النموذج الفلسطيني، فإنه يمكن اعتبار هذا التعديل بداية تصلح موضوعا للحوار في المجتمع، وفرصة لتبني القوى السياسية رؤية واضحة وشاملة للتغيير الديمقراطي في مصر.
وأكد أن إجراء انتخابات حرة ونزيهة يتطلب أن يكون حق الترشيح لمنصب رئيس الدولة متاحا لكل المصريين مع اشترط التمتع بحسن السيرة، مشيرا إلى أنه ليس لأحد أن يتفق مع اجتهادات الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب في قصر الترشيح لمنصب الرئيس على قيادات الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس الشعب والشورى، معتبرا أن هذا الشرط يستهدف استبعاد جماعة الإخوان المسلمين في الترشيح لمنصب الرئيس.
وقال الدكتور مصطفى أن المرشح لمنصب الرئيس ينبغي أن يحصل على تزكية من المواطنين وليس من مجلس الشعب والشورى والمجالس المحلية الذين يسيطر عليهم الحزب الوطني، وقال عنهم أحد قياداته –الدكتور زكريا عزمي- “أن الفساد في المحليات وصل للركب”.
أضاف الدكتور مصطفى أن تشكيل النخبة المشرفة على الانتخابات بالشكل الذي يتم الإعلان عنه أمر يثير الضحك، خاصة وقد أعلن أن رئيس هذه اللجنة هو رئيس مجلس الشعب، وهو قيادي بالحزب الحاكم، مشيرا إلى أن تحجج رئيس مجلس الشعب بإشراف المجلس الدستوري الفرنسي على الانتخابات الرئاسية في فرنسا قياس غير دقيق لاختلاف الوضع كثيرا بين مصر وفرنسا، حيث يضم المجلس الدستوري الفرنسي تسعة أعضاء؛ ثلاثة منهم يعينهم رئيس مجلس الشعب، ويعين كل من رئيس الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ ثلاثة آخرين، إضافة إلى عضوية رؤساء الجمهورية السابقين في المجلس.
أكد الدكتور مصطفى كامل على ضرورة حيادية أجهزة الحكومة ووزاراتها المختلفة في المعركة الانتخابية، إلى جانب حياد أجهزة الشرطة، لافتا إلى تدخل الأخيرة في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة بصورة واضحة.
وتعجب من إجراء الانتخابات الرئاسية في يوم واحد. وقال إن ذلك لن يمكِّن القضاء من الإشراف على هذه الانتخابات بالوجه الأكمل رغم أهمية حدث انتخابات رئيس الدولة، لكونه حجر الأساس في النظام السياسي المصري، متسائلا عن موقف الإذاعة والتلفزيون في مصر من كونها الأداة الرئيسية للدعاية الانتخابية.
وأكد على أن استمرار العمل بقانون الطوارئ لم يعد له مبرر، مشددا على أن الأهم في كل هذا الأمر هو احترام حقوق الإنسان، مشيرا إلى أن عدم تحقق هذا الأمر ينفي أية جدية في التوجه نحو الإصلاح السياسي، متناولا موضوع غياب الشخصيات القومية، وقال إنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وعن طريق الاتحاد الاشتراكي كان هناك أشخاص يمكن طرحهم كشخصيات قومية، في حين أن هذه الشخصيات اختفت تماما الآن، مرجعا ذلك إلى قيام الحكومة بتجفيف المنابع التي تفرز هذه الشخصيات بإلغاء الانتخابات في الجامعات والقرى، وتجميد انتخابات النقابات المهنية.
وقال إن القيادات النقابية المصرية هى بالفعل الشخصيات العامة التي اكتسبت مواقعها بالجهد والإقناع والحوار، مؤكدا أن تفعيل آلية الانتخابات على كافة المستويات كفيلة بإنتاج قادة على كل المستويات.
Share this Post