أجمع محللون وخبراء على أن رحيل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون جارانج مثل خسارة فادحة لمختلف الأطراف المهتمة بمستقبل عملية السلام في السودان، سواء في الداخل أو الخارج، فيما اختلفوا حول تقييم أداء الحركة المتوقع بعد رحيل جارانج وحذروا من مغبة أن يؤدي ذلك إلى إعادة القوى السياسية المختلفة وعملية السلام إلى المربع رقم صفر.
وأشار الدكتور حيدر إبراهيم مدير مركز الدراسات السودانية في ندوة نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان حول “مستقبل السلام والتعايش في السودان بعد رحيل جارانج” إلى أن جارانج لم يدفن وحده ولكن دفنت معه –حسب وصفه- حقبة تاريخية كاملة بدأت من عام 1983 بكل سياساتها وبرامجها وعلاقاتها بالقوى السياسية المختلفة لافتا إلى أن جارانج كان يتمتع بشخصية كاريزمية، وكان له قدر من الإشعاع الواضح وقد قبلت أطراف عديدة في السودان بدوره، وقال إبراهيم إن هناك خاسرون عديدون من وراء موت جارانج وأن عليهم جميعا ترتيب أوضاعهم حسب المرحلة الجديدة، واصفا عملية السلام في السودان بأنها “ترملت” بغياب جارانج.
عدد إبراهيم خاسرين خمسة من وفاة جارانج معتبرا أن النظام السوداني يعد هو الخاسر الأكبر مفسرا ذلك بأن النظام السوداني وحزب المؤتمر الشعبي الحاكم، أراد أن يجعلا من الشراكة مع جارانج حائط صد وممتصة للصدمات التي يمكن أن تحدث من قبل أطراف المعارضة الأخرى، مضيفا أن حزب المؤتمر استفاد من كون جارانج كان مهتما بشدة بتوازن العلاقة مع النظام الحاكم والتجمع المعارض في الوقت نفسه.
فيما كان الخاسر الثاني في رأي الدكتور إبراهيم هو التجمع الوطني الديمقراطي المعارض وترجع خسارته إلى كون جارانج كان الضمانة الوحيدة لتنفيذ اتفاق القاهرة بين التجمع والحكومة السودانية، خاصة وأن النظام الحاكم معروف بالمناورات ولا يمكن الوثوق به، فيما كان جارانج قادرا على إجباره على تنفيذ اتفاق القاهرة خاصة وأنه –جارنج- كان يعتبر نفسه جزءا أصيلا من فصائل التجمع المختلفة.
أما الخاسر الثالث فيتمثل في دول الجوار وفي مقدمتها مصر، مشيرا إلى أن مصر ظلت لفترة مترددة ومتشككة بشأن جارانج حتى تقبلته كوحدوي لا يسعى لفصل الجنوب عن الشمال لكنها –أي مصر- وضعت كل البيض في سلة جارانج وكانت تتعامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان على أنها جارانج فقط.
أضاف إبراهيم أن النظام الليبي أيضا كان من الخاسرين برحيل جارانج خاصة وقد بدأ العقيد القذافي يرتاح كثيرا للتعامل مع جارانج كشخص ثوري فيما افتقدت إريتريا في جارانج صديقا فيما جاء الشماليون المنضمون للحركة الشعبية لتحرير السودان في الترتيب الرابع لقائمة الخاسرين التي عددها الدكتور إبراهيم والذي أشار إلى أن هؤلاء الشماليون ربطوا أنفسهم بجارانج أكثر من ارتباطهم بالحركة ذاتها، بما يوجب عليهم التكيف مع الوضع الجديد والتعامل مع الحركة كبرنامج وقوة سياسية لها وزنها داخل السودان.
ويختتم الدكتور إبراهيم قائمة الخاسرين بوفاة جارانج بالولايات المتحدة الأمريكية أوروبا الغربية، مشيرا إلى أن جارانج كان معولما إلى حد ما ويجيد التعامل مع مطالب التحول الديمقراطي والسوق الحرب..
ورأى الدكتور إبراهيم أنه لا يجب التعامل مع المستقبل بناء على هذه المعطيات على أنه مظلم وقاتم وأنه على العكس يجب التعامل مع الحد الفاصل بين ما “قبل جارانج وما بعده” بالالتزام بالمؤسسية والتعامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان كتنظيم له عضوية وكوادر والأهم أن له برنامج ورؤية بما يعني أن اختبار الحركة ومحاكمتها يجب أن يتوقف على كيفية تطبيقها لبرنامجها ورؤيتها، وبالتالي موقفها من السلام ولاقتها مع الشمال.
ودعا إبراهيم إلى ضرورة التوقف عن شخصنة الحركة وعدم إقامة شخصنة جديدة بها من أن هناك قوى سياسية في السودان تستفد من استمرار هذه الشخصنة وقال إبراهيم إن الانفصاليين الشماليين يريدون خلق صورة نمطية عن سيلفا –الزعيم الجديد للحركة- كير بتصويره على أنه شخص انفصالي وتخويف الشماليين من هذه الصورة بترديد أن هناك خطر يمثله كير الانفصالي يقتضي من الشماليين أن يدافعوا عن أنفسهم في مواجهته، مشيرا إلى أن هناك تيار انفصالي قوي في السودان تأتي على رأسه المؤسسة الدينية.
وأكد إبراهيم أن الكلام الذي يقال عن كير به الكثير من الزيف معتبرا أن ظروف كير الآن تشبه ظروف تولي السادات حكم مصر عقب وفاة جمال عبد الناصر، حيث كان الجميع يعتقد أن السادات لن يستطيع تحريك مصر خطوة للأمام، فيما كشف هو عن قدرات قيادية ودارية سريعة جدا، وقال إبراهيم أن سيلفا سيميل أكثر للعمل الجماعي لأنه يفتقد الإجماع والاتفاق الذي كان موجودا حول شخصية جارانج.
ولاحظ د. إبراهيم أن منظمات المجتمع المدني والقوق السياسية السودانية قصرت كثيرا خلال الفترة الماضية في إيجاد شكل من أشكال العمل الشعبي اليومي الداعم لاتفاقية السلام، مشيرا إلى أن السودان الآن يمر بمفترق طرق بما يستوجب على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني به أن ترتقي لمستوى التحديات الصعبة التي تواجهه.
وأكد على ضرورة أن تستغل القوى السياسية الفراغ الحاصل في السودان وتجعل من اتفاق السلام بداية فعلية لتحول ديمقراطي ومرحلة تنموية، مشددا على أن النظام السوداني بدوره يجب أن يتوقف عن المناورات وأن يتعامل بصدقية مع القوى الأخرى.
حروب مدمرة
وبدأ ملونق مورويل قوم ممثل الحركة الشعبية لتحرير السودان بالشرق الأوسط والخليج حديثه بالتأكيد على أن المستقبل هو الذي يثبت في النهاية أو ينفي ما تقدم من حديث، مشيرا إلى أن السودان ظل زهاء النصف قرن في حرب استنزفت طاقاته سواء البشرية أو المادية.
وقال قوم إن شخصية جارانج تحمل أبعادا كثرة في مقدمتها أنه كان مفكرا سياسيا وأنه أول من تحدث عن وحدة السودان وجعل من ذلك شعار له ولحركته كما أنه أسس تنظيما وجعل له رؤية وتصورات وحشد الناس حوله ووضع منظومة للعمل السياسي سار على نهجها هؤلاء الناس الذين التفوا حوله.
وأكد أن أفكار جارانج ونضاله لن يموتا وسوف يظلا مستمرين طالما حمل لواءه أناس من مدرسته الفكرية، مشيرا إلى أن جارانج امتد تأثيره وقاعدته من جنوب السودان حتى مناطق كثيرة في شماله.
أضاف قوم أن جارانج كان له فكر ورؤية تحولت إلى برامج ثم إلى اتفاق سلام صار جزءا من الدستور السوداني، مشيرا إلى أنه رغم أن هذا الاتفاق يعالج الحد الأدنى من المشكلات، إلا أنه يحمل البشائر لأهل السودان ويضمن لهم التعايش السلمي وإنهاء الحروب الطويلة.
وقال قوم إن الحركة الشعبية لتحرير السودان في الوقت الراهن بصدد التحول إلى حزب وأن أي حزب يبدأ بأفكار وقيم تستمر إذا ما وجدت قبولا لها مشيرا إلى أن هناك أمل بأن تستمر الحركة بأفكار جارانج طالما ظل هناك من يؤمنون بأفكاره وطالما كان هناك كادر موحد أكاديميا وثقافيا وفكريا داخل الحركة. وأشار إلى أن اتفاقية السلام بها الكثير مما يضمن تطبيقها وأنها حددت العلاقة بين المركز والأطراف بصورة واضحة وكذلك قضايا المشاركة بالسلطة إلى جانب أنها تعالج أزمة وتحقن الدماء، بما يعني أنها كفيلة بإقناع الشعب السوداني بأنه ليس هناك بديل لها خاصة أنه لا تكاد توجد أسرة سودانية ليس لها فقيد أو مصاب في الحرب التي استمرت طويلا وكانت مدمرة للسودان بالفعل.
أضاف قوم أنه بالنسبة لدول الجوار السوداني فإن اتفاقية السلام بها نصوص تجعل النظام السوداني الحالي يغير سياساته الخارجية التي ظلت لفترة طويلة قائمة على العداء والتدخل في شئون الدول المجاورة، مشيرا إلى أن هذه النصوص تجعل السياسة السودانية الخارجية تتجه نحو بناء علاقة حيدة مع دول الجوار، وذلك بغض النظر عن وجود جارانج أو غيابه.
وانتقل قوم للحديث عن الأوضاع داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان فأشار إلى أن الكثيرين من المراقبين أطلقوا الكثير من التوقعات حول خليفة جارانج سيلفا كير، مشيرا إلى أن للمراقبين الحق في كثير مما قالوه لأن كير لم يختبر حتى الآن، ولا زال الوقت مبكرا جدا للحكم على أفكاره خاصة فيما يتعلق بقضيتي الوحدة والسلام.
وأشار إلى أن كير أكد تمسكه بمنهج جارانج ودعوته لسودان موحد على قواعد جديدة، مؤكدا على أنه لا يوجد ما يدعو للتخوف من شخصية كير والتركيز فقط على كونه مهتم بالجانب العسكري وحده للحركة وقال إن كير ظل مؤسسا ومكافحا ومناضلا في الحركة وأفكارها التي تؤكد على الوحدة ورفض التهميش.
واعتبر قوم أن الكثير من قيادات الحركة أمامهم المجال الآن للظهور مطالبا بالتعامل مع الحركة كمنظومة سياسية لها أفكارها ورؤاها الخاصة بها.
وركزت الدكتورة إجلال رأفت أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية على التعامل الخاطئ للحكومة المصرية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، على أنها جون جارانج فقط مرجعة ذلك إلى أنه يمثل جزءا من الثقافة السياسية للحكومة المصرية التي تهتم دائما بالتعامل على المستوى الشخصي أكثر من المستوى المؤسسي، وقالت إن مصر تفعل ذلك مع كل القوى السياسية السودانية الأخرى وليس مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وحدها.
وأشارت إلى أنه إذا أرادت مصر أن تفعل شيئا في علاقتها بالسودان فيجب أن تبادر إلى عمل علاقات سريعة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان كحركة وليس كشخص.
ورأت أن الحكومة السودانية ليست خاسرة بوفاة جارانج وأنها حتى لو خسرت في الثلاث سنوات القادمة فإنها ستسعى بعد ذلك إلى المكسب من وجود الحركة بدون زعيم كجارانج.
وأشار مجدي النعيم عضو اللجنة التنفيذية لمركز القاهرة إلى أنه في لحظة التفاوض حول اتفاقية السلام كان يبدو وكأن النخبة السودانية قد وصلت لطريق مسدود فيما يتعلق باقتراح الحلول اللازمة للأزمة وهو ما ظهر في الدور الدولي الكبير في صياغة الاتفاقية وطرح الأفكار البديلة، مشيرا إلى أن الرقابة الدولية ليست كافية لتنفيذ الاتفاقية.
واستطرد مشيرا إلى أنه في ثورة 1924 بالسودان ظهر قائد سياسي ملامحه مختلفة في العهود السابقة وهو علي عبد الطيف وبعد عقود لاحقة أصبح تأثره كبيرا وسط كل من يتطلع لسودان ديمقراطي، وتساءل النعيم عما إذا كن جارانج هو الآخر سوف يشكل في المستقبل واحدا من مصادر الإلهام لإعادة بناء الأمة السودانية، لافتا إلى أن جارانج لم يترك كتابات كثيرة، ولم يمارس الحكم أو يضع القوانين، لكنه مارس السياسة لزمن طويل، وصاغ شعارات وخطوطا عامة مثلت منهجا لعمل سودانيين كثيرين ومهمشين، مشيرا أيضا إلى أن غاندي لم يترك ميراثا مكتوبا، لكنه بشكل ما كان واحدا من مكونات الأمة الهندية وكذلك سعد زغلول الذي مثل تراثه واحدا من مكونات الوطنية المصرية.
وفي تعقيبات الحضور أشارت رجاء العباسي الصحفية بجريدة البيان الإماراتية إلى أن اتفاقية السلام السودانية مجرد نصوص معبرة عن اعتقادها بأنهن لن يكون هناك تطبيق عملي لها، مشيرة إلى أنه لو كان هناك نية حقيقية لذلك لتم تطبيق بعض هذه النصوص منذ زمن على الأقل فيما يتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان وتغيير الخطاب الإعلامي.
واعتبرت أن يوم وفاة جارانج كشف عن حقيقة وجود الحركة الشعبية في السلطة، حيث تأكد أن الإنقاذ ما زال هو الحكومة الفعلية بدليل رفض الإذن لطائرة الرئيس الإريتري بدخول الأراضي السودانية للعزاء في جارانج، إلى جانب أن كل عناصر مكافحة الشغب كانت من العناصر الأمنية الإنقاذية فقط.
ودعا عاطف إسماعيل إلى استمرار الضغوط للتحقيق في حادث وفاة جارانج وعدم الاستكانة لوضع الموضوع تحت لافتة “القضاء والقدر” مشيرا إلى أن سجل الأنظمة الشمولية ملئ بحادث الاغتيالات.
وأكد إسماعيل أن الأحداث الأخيرة كأحداث جامعة الجزيرة ومصادرة جريدتي الوطن والأنوار أثبتتا أن الحركة الشعبية لا تستطيع ممارسة دورها كشريك أساسي، في الحكم في الخرطوم، وأنها ما زالت على هامش هذه السلطة، فيما أشار إسماعيل رحمة المحامي إلى أن النظام السوداني رابح وليس خاسر من وفاة جارانج لأن وفاة جارانج تعني فقدان شريك قوي في اتفاقية السلام بما يعني بالنسبة للنظام إمكانية تمرير أجندته الخاصة.
وعاد الدكتور حيدر إبراهيم للتعقيب مجددا للتحذير من حالة الفراغ السياسي في السودان وقال إن المرحلة الحالية لا تحتاج لأحلام العصافير وإنما ترتبط بالقدرة على تحريك الشارع السوداني، مشيرا إلى أن نظام جبهة الإنقاذ نجح في زرع اللامبالاة في نفوس الناس ويتعامل حاليا على أنه لا يوجد شعب سوداني.
وأضاف أن النظام سوف يجد الأحزاب غائبة ولن يجد تحديا حقيقيا أمامه وسيكون الحزب الأكبر هو جهاز الأمن والذي يمتلك الإعلام ولديه الأموال والسيطرة على مختلف الأمور في البلاد.
وانتقد إبراهيم ما وصفه بتحول منظمات المجتمع المدني في السودان إلى ما يشبه المنظمات الخيرية واهتماما بموضوعات كختان الإناث أكثر من اهتمامها بقضايا حقوق الإنسان وغياب أي دور لهم في الفراغ الحاصل في السودان. وقال إن هذا أمر يدعو للشعور بالخجل.
وأكد على الحاجة لاستنهاض الحزبيين في منظمات المجمع المدني، واستنهاض المواطن العادي، مشيرا إلى أن تحقيق ذلك يحتاج إلى رؤى كبيرة وقيادات سياسية غير مستهلكة.
وقال إنه فيما يتعلق بمصر فهى دولة مركزية تبحث عن “فراعين” صغار للتعامل معهم، مشيرا إلى أن الحكومة السودانية خاسرة مرحليا في موضوع وفاة جارانج وأن إثارة مسألة الربح في الوقت الحاضر في وفاة جارانج تحمل خطورة في الرجوع لنظرية المؤامرة والوصول إلى أن الرابح هو المتسبب في وفاة جارانج، موضحا أن الربح سيكون في مدى استغلال هذا الحدث مستقبلا.
وأكد موردويل قوم أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن أسباب وفاة جارانج وأن أي حديث في هذا الأمر يعد استباقا للأحداث والتحقيقات وشدد على حاجة كل من الشمال والجنوب لبعضهما البعض وعلى ضرورة الترفع عن النظرة الحزبية الضيقة والنزعة العرقية لتحقيق الوحدة والتحول الديمقراطي.
Share this Post