مسعود الرمضاني
اعتبر آصف بيات ، عالم الاجتماع والكاتب الامريكي ان ثورات «الربيع العربي» هي «انصاف ثورات» أو «ثورات اصلاحية» لانها تفتقد لرؤية بديلة واضحة تحدد مساراتها المستقبلية ولانها كذلك لم تتمكن من الاستيلاء على كل مفاصل الدولة مما يجعلها تقطع مع النظام القديم وبالتالي فإن مالاتها ظلت هشة ويمكن ان ترتد بنفس السيولة التي رافقت نجاحها الجماهيري العفوي ، ولارتداداتها انعكاسات سلبية ، لعل أخطرها العودة إلى مربع الاستبداد.
ولئن أفلتت تونس من مصير دول المنطقة العربية وتقدمت بعض الخطوات في طريق ترسيخ بعض المؤسسات الديمقراطية ، الآ انها ظلت تعيش تناقضا عميقا أبقاها في دائرة الهشاشة وسهّل امكانية الارتداد عليها، تناقض بين حياة حزبية متنوعة وبين عقلية سياسية تربّت في محيط الاستبداد بكل أبعاده السياسية والدينية والثقافية ، عقلية ترفض التعدد والحوار وتسعى الى وصم وتقزيم الاخر المختلف عقلية ترى ان السلطة «مكسب شرعي» وليس اداة حكم مؤقت، وهومكسب يجب السعي بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لاستدامته، مما يجعل كل الخصوم السياسيين اعداء ، يجب تقزيمهم ، وحتى القضاء عليهم (سياسيا على الاقل).
التاريخ يعيد نفسه:
من حق حركة النهضة مثلا أن تدين ما وقع يوم 14 جانفي 2022، يوم ذكرى الثورة من قمع للاحتجاجات واعتداء على المحتجين ومنع وتفريق المتظاهرين بالقوة،فكل القوى الحزبية والمدنية فعلت ذلك ، لكن ليس من حق الحركة ان تنسى او تنكر ما حصل يوم 9 افريل 2012، يوم أراد المواطنون احياء ذكرى احداث 9 افريل 1938، حينها لم تكتف وزارة الداخلية بالمنع ، بل كان هناك تنسيق بين قوات الأمن ومليشيات تستعمل العصي من اجل الاعتداء بوحشية ، لا فقط على المتظاهرين ، بل على كل من كان مارّا في شارع الحبيب بورقيبة ، وحتى اللجنة البرلمانية التي تكونت بغاية التحقيق في ذلك اليوم الحزين في تاريخ تونس ، فإنها لم تأت بنتيجة وقدم جل اعضائها استقالتهم نتيجة الضغوط، بعدها ، صرّح السيد علي العريض وزير الداخلية آنذاك ، بان تلك «الاحداث تجاوزها التاريخ» وفي الحقيقة ليس ابشع من الجريمة إلا الإفلات من العقاب ولا أخطر من التجاوزات الا الاستخفاف بها ، لأن الجريمة تولد جرائم أخرى وتؤسس لثقافة العنف والثأر عوضا عن العدالة والسلم الاجتماعية وتضعف مؤسسات الدولة وتشكك في مصداقيتها وبذلك تجد النظريات الاستبدادية الناشئة أو تلك المتربصة الفرصة سانحة للبروز وفرض رؤيتها الاستبدادية.
الديمقراطية ليست تداولا على السلطة فقط:
ان تعدد الاحزاب وتنوعها وتصدرها الحياة السياسية لا يؤسس بالضرورة الى انتقال ديمقراطي ان لم يقترن بثقافة ديمقراطية ، تحترم الحق في الاختلاف وتؤمن بأحقية وجود الرأي الآخر ومساواة كل المواطنين أمام القانون… وبعبارة اخرى فان نجاح اي تجربة ديمقراطية ، لا يختزل في دورية الانتخابات ولا في كثرة الأحزاب ، بل يجب ان يتضمن تحقيق عدة شروط مجتمعية ، تعمل النخب المدنية والسياسية على ترسيخها ، منها أساسا سيادة القانون وحيادية مؤسسات الدولة وتعزيز استقلالية المجتمع المدني والاعتراف بدوره التعديلي واحترام الدستور ، كعقد اجتماعي بين الشعب والسلطة… ولنا ان نجزم بان التجربة التونسية فريدة في المنطقة العربية ، ويمكن كذلك ان نتباهى بانها تفادت الحروب الأهلية والفوضى والعودة للديكتاتورية ، لكننا لم ننتبه بما فيه الكفاية الى فرادة اخرى ، مقارنة بعديد تجارب الدول التي عاشت التحوّل الديمقراطي في اماكن اخرى من العالم، وهي طراوة عودها مع مرور السنين وهشاشتها مما يجعل الانقلاب عليها ممكنا وسهلا … فالنخب التي حكمت خلال السنوات العشر ارتكبت أخطاء قاتلة في حق البلاد اولا وحق أحزابها السياسية : لقد جمعت بين غياب تجربة الحكم والتهافت والنرجسية ومحدودية الثقافة الديمقراطية التي يجب ان تقبل بوجود الخصوم السياسيين وبين التعصب الايديولوجي الشمولي واعتبار الحكم غنيمة لا تفريط فيهاومحاولة اختراق مؤسسات الدولة للسيطرة على كل مفاصلها، وكان من نتيجة هذا الوضع تهميش المشاكل الاساسية ومزيد تعميق الازمة الاقتصادية ، التي كانت سببا رئيسيا وراء ثورة 2011، وتحوّل الصراع السياسي الى مناكفات وصراعات هامشية ، لا علاقة لها بأولويات البلاد وانحسار دور الاحزاب التقليدية ،و امام كثرة مشاكلها الداخلية وعجزها عن تلبية الادنى الذي يطمح له المواطن ، برز فاعلون سياسيون جدد ، استثمروا في الاحباط من الطبقة السياسية وتوسع اطار النقمة على مردودها الهزيل وتهرئة أجهزة الدولة وتنامي مظاهر الفساد الذي طال كل جوانب الحياة المهنية والاجتماعية ، بعد ان كان شبه مقتصر على عائلات الماسكين بالسلطة قبل 2011….
«القائد المنقذ»
وبرز السيد قيس سعيد وسط هذا الركام السياسي المتهالك والمزاج الشعبي الغاضب ، ولم يلاحظ تسربه الكثيرون ، حتى أولئك الذين راكموا عقود من التجربة ، فالانتشاء بالسلطة والجاه والرفاه المستحدث والظهور الإعلامي شبه اليومي والمناكفات اليومية والصراعات الهامشية كانت كلها كفيلة بالتغطية على كل المستجدات الهامة في البلاد، وجاء هو مناقضا تماما لما هو موجود، اذ انتخبه الشعب «لما ليس فيه ، وليس لما فيه» كما قال أحد المتابعين : لا ماضي سياسي له ولا انتماء لأي حزب بعينه ولا ماضي نضالي يمكن ان يتباهى به ، وهو يتكلم عربية فصحى لم يألفها التونسيون حتى في الكليات و يتجوّل في المناطق النائية طولا وعرضا للتعريف «ببرنامجه» ويعوّض الديمقراطية السائدة بديمقراطية بديلة تريح الشعب من الاحزاب المتكالبة على السلطة ومن كل هؤلاء السياسيين «الفاسدين».
حين جاء قيس سعيد ، كانت كل الظروف مهيأة لخوض تجربة شعبوية ، اذ كان خطابه حول «الديمقراطية القاعدية» مغريا ، خاصة بالنسبة للشباب المهمش من الحياة السياسية ، بما انه سيؤسس الى ديمقراطية تأتي على انقاض الاحزاب والمنظمات الوسيطة وتعطي للافراد في المناطق النائية فرصة اخذ القرار وتحديد مستقبلهم وشكل التنمية التي يختارونها، ولا يهم بعد ذلك ان يفسخ الدستور بجرة قلم أو ان يقوم باجراءات تعسفية أو يسجن معارضين أو يتنمر على القضاء ويستنقص من دوره واستقلاليته، أو ان تكون هذه الديمقراطية طوباوية وغير قابلة للانجاز، فعقلية الانتقام والتشفي في واقع مجتمع عيل صبره من انتظارات لم تتحقق ولم يهضم بعدُ مبادئ التنوع ولم يساعده الوضع السياسي على ذلك كفيلة بهضم الخطاب الشعبوي وتقديس كل «بطولاته» المتمثلة في تجاوز كل المحاذيرالقانونية وكل التزام بشرعية يراها الشعب «غير مجدية «، لانها لم تأت بالاصلاحات المطلوبة.. الا ان الخطاب الشعبوي يظل ظاهرة صوتية مغرية لكن سرعان ما يستهلك مشروعيته الشعبية عند اصطدامه بالواقع المعقد ، بكل ابعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتفرد بالسلطة ساحر وجذاب ومدعاة للغرور ولكن له ثمن باهض ،لانه يراكم الاخطاء الفردية ويوسع من جبهة المعارضين في الداخل والخارج بخطابه القطعي و الاقصائي ويضيّق من مجاله الحيوي ويهئ الظروف المناسبة لنهايته، نهاية قد يمتد تأثيرها الى انهاء العقد السلمي للديمقراطية الذي استثمر في هشاشتها.
ان كانت عقبات وجود نظام ديمقراطي هي تعاقب سلطات مستبدة منذ فجر الاستقلال ، فان فترة ما بعد الثورة امتازت بغياب شبه كلي للثقافة والقيم الديمقراطية رغم وجود ارضية ملائمة لذلك،قيم بدونها لايمكن بناء مجتمع متسامح يقبل باحقية وجود الاخر المختلف ، ويؤسس لعلاقات جديدة على ركام بُنى الاستبداد ، باشكاله المختلفة، لذلك فان امكانيات الارتداد تظل دائما ممكنة…ومفزعة.
المصدر: جريدة المغرب
Share this Post