مسعود الرمضاني
“يوجد في البلدان العربية قمع اشد وطأة مما كان عليه قبل الثورات، لكن لا يمكن الحديث عن قبر هذه الثورات، لان الشعوب طوّرت رؤى وتوقعات جديدة لا يمكن للأنظمة تجاهلها او قمعها.” (اصف بيات، “حياة ثورية: يوميات الربيع العربي” )
الكتابة بعد ثورة 14 جانفي 2011، سواء في تونس او خارجها، عرفت في مجملها حقبتين، حقبة الانبهار بحركة شعبية غير مسبوقة فرضت شعارات تنادي بها الشعوب المتحضرة التواقة للحرية والعدالة واطاحت بنظام مستبد، رغم قوّة تحصينه الامني وجبروته، ثم فترة إخفاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية رافقت حكومات ما بعد الثورة ، إخفاقات شككت في جدواها و مالاتها وكانت من الأسباب التي ساعدت السيد قيس سعيد على الاستحواذ على كل السلطات وفرض اطروحات وتصورات غير مألوفة وحتى تغيير تاريخ الثورة، معتبرا ان 14 جانفي، ذكرى مسيرة شارع الحبيب بورقيبة الحاشدة وفرار بن علي، هو “تاريخ اجهاض الثورة” التي بدأت يوم 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد، وذلك في محاولة منه لإعادة كتابة التاريخ بصفة شخصية واحادية، وكأن تاريخ الشعوب صفحة بيضاء يمكن لأي سلطة مستجدة كتابتها اراديا وليس ذاكرة جماعية لا يستطيع احد محوها.
وان كان قيس سعيد يسعى من خلال “تصحيحه” لتاريخ الثورة الى إضفاء وجاهة لمشروعه السياسي الذي يريد ان يفرضه على الشعب والنخب السياسية والمدنية، فان التشكيك في الثورة قد سبقه بسنوات من قبل شرائح شعبية لم تمكنها الحياة الديمقراطية المترددة وهامش الحرية وتداول الأحزاب على السلطة ومشاركتها الفعلية في الانتخابات من تحقيق ما كانت تصبو اليه من كرامة، تدركها أولا في تحسين مستوى عيشها وشغلها ومستقبل ابنائها، فشككت في جدواها ، والالتباس جاء كذلك من طرف نخب محدودة أمضت وقتا طويلا تجادل حول مدى تطابق “مقومات الثورة” مع ما حدث في تونس، وكأن التجارب الثورية تتطابق وتتناسخ.
في كتابه القيّم “ثورة في بلاد الإسلام” يؤكد الأستاذ عياض بن عاشور بن عاشور على ان الثورات لا تتشابه وهي تختلف باختلاف المجتمعات ونضج الظروف التاريخية والابعاد الثقافية للشعوب، فالثورة الفرنسية التي شغلت العالم، منذ ولادتها قبل قرون الى الان، تختلف عن الثورة الإنجليزية والاثنتان تختلفان عن الثورة الروسية والصينية …”اذ لكل ثورة خصوصياتها وقيادتها ومالاتها”
والثورة التونسية لها، أيضا مقوماتها الخاصة، من بينها انها كانت افقية، لا يقودها حزب يخطط تحركاتها ولا أيديولوجية تحدد بوصلتها، كانت تقودها فقط المبادئ الإنسانية الكونية، حول الحرية والديمقراطية والعدالة مع تلك المسحة الأخلاقية الضرورية لكل فعل جماهيري ذي مصداقية. وهو لا يرى فيها ثورة ضد الاستبداد فقط، بل أيضا، ضد ثقافة عربية إسلامية تكبلها الأفكار المحافظة وتعيقها المعتقدات الدينية التي لا تعترف بالثورات الا إذا عادت الى “المرجع الإسلامي الأصلي” والسلف الصالح.
وتكمن أهمية الكتاب أيضا في نقاش مخاضات الانتقال الشاقة والملتوية، اذ ما من ثورة في العالم عرفت مسارا تصاعديا مباشرا، فجلّ الثورات عرفت ارتدادات وهزات وبروز ارهاصات استبدادية تطول مدتها وتقصر احيانا، حيث بقدر ما تفتح هذه الثورات الأبواب على مصراعيها امام الأفكار التقدمية وتتحرر السياسة من قيود الانغلاق ويعانق الشعب الامل في غد افضل، بقدر ما تبرز على السطح نكوص تنمّ عن مخاض عسير، لان الانتقال من الاستبداد الى الحرية يظل قاسيا ومعقدا ، فالعالم المنشود يتأخر أحيانا .
ثأر من الثورة
صعود السيد قيس سعيد، بما حمله من أفكار محافظة ورؤية فريدة للديمقراطية مع خلوّ ماضيه من اية تجربة سياسية زمن الاستبداد هو ثأر من الثورة ومن شعاراتها وقيمها وسياسييها ومناضليها رغم ما قدموه من تضحيات، وهو أيضا ثأر الشباب من سنوات المتاهة السياسية حين لم تكن الدولة قادرة على مواجهة المشاكل الحقيقية للبلاد بسبب الصراعات الهامشية للأحزاب وضعف حوكمتها وفقر تجربتها وتهافتها على السلطة والحكم، ذلك الجزء من الشباب الذي لم تستهويه “الحرقة” ولا مغامرة الالتحاق ببؤر التوتر، واختار ان يثأر بالطرق الشرعية والانتخابية.
لذلك رأى الشباب في الرئيس فرادة نوعية وتبرما من السياسية التقليدية مع مزيج كيمائي فريد وصعب الانصهار: فهو يعترض على الإسلام السياسي ويتمسك بتحقيق مقاصد الشريعة، يفرض سلطة مركزية مفرطة ويدعو الى البناء القاعدي، يتمسك بديمقراطية لكن دون هياكل حزبية او منظمات ومؤسسات، يشترط مشاركة المرأة في التزكية الانتخابية ويقف دون وصولها الى مركز القرار، باختصار هو مرآة لمجتمع قلق اثرت فيه التغييرات والهزّات، الإيجابية والسلبية، ايمّا تأثير، ففقد البعض من مرجعياته.
مأزق تونس اليوم:
الازمة السياسية التي سببتها الإجراءات التي اتخذها قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021 عمقت من تردي أوضاع اقتصادية واجتماعية عاشتها البلاد منذ ثورة 2011، وذلك بسبب التوتر الداخلي وشبه العزلة الخارجية التي لم تزدها خطابات الرئيس المتشنجة الا تعقيدا، ويصعب التوقع بالخروج من هذا النفق المخيف ، لاعتبارين ، فلا يبدو ان الرئيس قادر على تغيير خطابه وعزفه الانفرادي وطريقته في تسيير للبلاد ويقتنع بضرورة حوار شامل يعيد الثقة للشعب ويجمع أبناء الوطن عوضا عن السعي الى تقسيمهم، ولا المعارضة المشتتة والمتنافرة قادرة ان تستوعب الدرس وتتجاوز أخطاء الماضي وتوحد خطابها ورؤيتها حتى تقدم بديلا سياسيا واقعيا وازنا .
اما عن تغيير تاريخ الثورة فكثر هم الحكام الذين أرادوا تغيير التاريخ وفشلوا لان التاريخ هو ذاكرة الشعوب ومخزن وعيها وصائن وحدتها ولا يمكن لأي سلطة ان تعيد بناء هندسته بما يتوافق مع مزاجها او ايديولوجيتها بل ويحذرنا احد السياسيين المتمرسين من اننا “حين نبدأ معركتنا مع الماضي والحاضر ، فإننا سنكتشف اننا قد خسرنا المستقبل” ، كما انني اتفق تماما مع اصف بيات ، أستاذ علم الاجتماع في الولايات المتحدة المتخصص في المنطقة العربية والذي كان لي شرف مراجعة كتابه الأخير “حياة ثورية” ،حين يرى ان الثورة هي لحظة استثنائية لا تقاس أهميتها بمدى التغييرات التي تحدثها في الحياة السياسية ولا بتطور الممارسة الديمقراطية فقط ، بل بتجربة المقاومة التي اكتسبها بسطاء الناس حين دمروا جدار الخوف ، مما سوف لن يسمح لأي ديكتاتور ان يصمد طويلا امام مقاومتهم، وشخصيا لي ثقة في مقاومة نساء ورجال تونس التي لن تموت.
المصدر: جريدة الشارع المغاربي
Share this Post