تزامنت الجلسة الـ 54 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، والتي اختتمت فعاليتها مساء الجمعة 14 أكتوبر، مع عدة تطورات وأحداث كبرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد شهدت الجلسة استجابات وقرارات متفاوتة فيما يتعلق بأوضاع حقوق الإنسان في بعضها. فبفضل الجهود الهائلة التي بذلتها منظمات المجتمع المدني، اعتمد المجلس بأغلبية أصوات (19 دولة)، قرارًا بتشكيل بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق حول النزاع في السودان؛ كخطوة مبدئية لضمان المحاسبة ومساءلة الجناة عن الجرائم المرتكبة من مختلف الأطراف. وذلك رغم معارضة السلطات السودانية للقرار مدعومة من المجموعة العربية. وكانت مجموعة من المنظمات الحقوقية، من بينها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان قد تبنت هذا المطلب في رسالة مشتركة للمجلس قبيل التصويت على القرار، كما أعربت عنه في ندوة عامة على هامش فعاليات الجلسة في 15 سبتمبر الماضي. وعلى الجانب الأخر، فشل المجلس مجددًا خلال هذه الجلسة في اتخاذ إجراءات بشأن العديد من حالات حقوق الإنسان الحرجة، في اليمن وليبيا ومصر والجزائر والبحرين، وكذلك في فلسطين وإسرائيل.
فبينما جددت منظمات المجتمع المدني في ندوة عامة على هامش الجلسة في 6 أكتوبر، بمشاركة ممثلي الدول والبعثات الدبلوماسية، مطلبها بإصدار قرار بتشكيل آلية تحقيق مستقلة بشأن اليمن، ورغم تحذيرات مركز القاهرة، في بيانه الشفهي أمام المجلس في 10 أكتوبر، من أن الصمت المستمر بشأن الجرائم المرتكبة في اليمن يقوض بشدة شرعية مجلس حقوق الإنسان وفعاليته، جاء القرار الخاص باليمن والذي تم تبنيه خلال هذه الجلسة منفصلاً تمامًا عن واقع الشعب اليمني الذي لا يزال يواجه هجمات متصاعدة على حقوقه.
وبالتزامن مع اندلاع المواجهات العنيفة في فلسطين وإسرائيل، والتي بدأت في الأسبوع الأخير للجلسة (في 7 أكتوبر الجاري)؛ نددت منظمات حقوقية، من بينها مركز القاهرة، في بيان مشترك؛ بفشل مجلس حقوق الإنسان في التصدي بفعالية لجرائم القتل الجماعي للمدنيين في كل من فلسطين وإسرائيل، مطالبةً بلجنة مستقلة تتولى التحقيق في الهجمات المرتكبة بحق المدنيين، فضلاً عن التحقيق في جرائم الحصار الممتد على القطاع، والاحتلال طويل الآمد، وسياسات الفصل العنصري الإسرائيلي، وتعمد إنكار الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في تقرير المصير العودة. المنظمات دعت أيضًا حكومات العالم إلى التوقف فورًا عن تقديم الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل، لا سيما بعدما عكست تصريحات مسئولين إسرائيليين نية الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. كما أدانت المنظمات ما وصفوه بتجريد الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية وتعمد تجاهل الإشارة للجرائم المرتكبة بحق المدنيين منهم. ودعت المنظمات المجتمع الدولي والدول الأعضاء إلى ضمان الوصول الفوري للمساعدات الإنسانية إلى غزة المحاصرة، والعمل على محاسبة جميع الأطراف المنتهكة للقانون الدولي.
هذه الجلسة شهدت أيضًا في 3 أكتوبر اعتماد تقرير الاستعراض الدوري الشامل للملف الحقوقي لإسرائيل أمام الأمم المتحدة. وخلال النقاش عارضت إسرائيل الانتقادات الموجهة لها في مجال حقوق الإنسان سواء من الدول الأعضاء أو من منظمات المجتمع المدني، وأدعت أن العديد من توصيات تقرير الاستعراض ذات طبيعة سياسية، ولا يمكن الامتثال لها. وردًا على ذلك أدان مركز القاهرة في بيان شفهي أمام المجلس الإنكار الإسرائيلي المستمر لجرائمها وتخاذل المجتمع الدولي عن محاسبتها. كما سبق وقدم مركز القاهرة بالتعاون مع منظمات شريكة 3 تقارير تفند أبرز الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها إسرائيل منذ الاستعراض السابق في 2018 وحتى العام الجاري.
يقول جيريمي سميث، مدير مكتب مركز القاهرة في جنيف: «وفقًا للقانون الدولي فإن أعمال العنف المرتكبة حاليًا في إسرائيل وغزة، والتي أودت بحياة آلاف المدنيين، هي نتيجة مباشرة للإفلات من العقاب طويل الأمد على الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الفصل العنصري الإسرائيلي والاحتلال المطول للأراضي الفلسطينية. أنه من الأهمية أن تضمن الأمم المتحدة التزام جميع الأطراف بسيادة القانون، بما في ذلك إنهاء وقف القصف الإسرائيلي المستمر ورفع الحصار الكامل عن غزة، وهي الإجراءات التي تعرض 2.2 مليون فلسطيني لخطر محدق وتشكل جرائم حرب بموجب القانون الدولي».
هذا الإفلات الدولي من العقاب يمتد بدوره إلى ليبيا، والتي كشفت الفيضانات المدمرة الأخيرة فيها وما أسفر عنها من كارثة إنسانية كبرى في درنة كان يمكن التخفيف من حدتها؛ عن عواقب الحكم الفاسد وغير القابل للمساءلة وغير الديمقراطي. إذ أن عدد القتلى الهائل خلال الكارثة يرجع إلى حد كبير للفشل في دمار البنية التحتية وغياب الخدمات الأساسية للمدنيين داخل المنطقة المنكوبة. وكان مركز القاهرة قد عقد مع شركائه ندوة عامة في 2 أكتوبر على هامش فعاليات الجلسة، استضافت مجموعة من المدافعين الليبيين عن حقوق الإنسان، الذين سلطوا الضوء على الإطار القانوني القمعي الذي قلص الفضاء المدني، والانتهاكات المتكررة خلال الانتخابات المحلية، والشلل التام للنظام القضائي الوطني وعجزه عن محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا. كما دعا المركز في بيان شفهي أمام المجلس، قدمته الناشطة الليبية شير سعدي التي أُجبرت على الفرار بعدما واجهت تهديدات نتيجة عملها في المجتمع المدني؛ إلى إعادة إحياء التحقيقات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا على وجه السرعة، محذرًا من إن الفشل في تنفيذ ذلك سيشجع الجماعات المسلحة على ارتكاب المزيد من الانتهاكات.
شارك مركز القاهرة أيضًا خلال هذه الجلسة في تنظيم ندوة عامة حول تدهور أوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان في البحرين. وذلك بالتزامن مع إعلان مئات السجناء السياسيين في البحرين، بينهم الحقوقي البارز عبد الهادي الخواجة، إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على استمرار حبسهم التعسفي وسوء المعاملة والإهمال الطبي المتعمد في السجون، ضمن سلسلة من الممارسات الانتقامية الممتدة بحق المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين المعارضين في البحرين. وكان مركز القاهرة قد انضم سابقًا إلى 14 منظمة حقوقية في رسالة إلى البعثات الدائمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، تطالب بمعالجة وضع السجناء في البحرين خلال هذه الجلسة. كما تطرقت الناشطة الحقوقية ابتسام الصائغ، في بيان شفهي باسم مركز القاهرة أمام المجلس، إلى الممارسات الانتقامية التي تعرضت لها بسبب عملها الحقوقي؛ بما في ذلك الاعتقال التعسفي، والاعتداء الجنسي، والتعذيب، والملاحقات والمضايقات الأمنية، وما أسفر عنه من خسائر معنوية وصحية ومادية.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه الجلسة شهدت تقديم المقرر الخاص الأممي لتقريره حول الأعمال الانتقامية بحق المتعاونين مع الأمم المتحدة وممثليها، مشيرًا إلى القيود والمراقبة المادية والرقمية المفروضة على المدافعين عن حقوق الإنسان بهدف المعاقبة أو ردع التعاون مع الأمم المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك البحرين ومصر. كما اعتمد المجلس خلال هذه الجلسة قرارًا بشأن الحق في الخصوصية في العصر الرقمي، يتضمن معايير جديدة قوية لحماية البيانات، ومشيرًا إلى مخاوف جدية بشأن استخدام بعض النظم القمعية لأنظمة المراقبة عن بعد للانتقام من معارضيها.
وبالمثل كانت الهجمات بحق المدافعين عن حقوق الإنسان ومنتقدي الحكومة، بما في ذلك الأحزاب السياسية، موضع تركيز مركز القاهرة خلال الجلسة فيما يتعلق بالوضع الحقوقي في مصر، لا سيما على أعتاب انتخابات رئاسية، سبق ووصفها المركز بأنها لا تحظى بأي فرصة للنزاهة أو الحرية. ففي ندوة عامة بعنوان «سراب الإصلاح» حول عواقب القمع المستمر في مصر، استعرض المتحدثون نماذج مختلفة للأعمال الانتقامية التي تعرضوا لها أو لا تزال عائلاتهم تتكبدها بسبب نشاطهم المعارض لسياسات الحكومة المصرية. وفي بيانه الشفهي أمام المجلس، أكد مركز القاهرة أن حملة القمع الشديدة الراهنة على الحريات الأساسية في مصر، تعكس افتقار الحكومة المصرية إلى الإرادة السياسية اللازمة لمعالجة أزمة حقوق الإنسان، وأن صمت المجلس والدول الأعضاء في هذا الإطار لن يؤدي سوى للتشجيع على ارتكاب المزيد من الانتهاكات.
في هذه الجلسة أيضا، وفيما أشاد مركز القاهرة بإصرار لجنة التحقيق الدولية على متابعة المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا؛ إلا أنه أعرب في بيان شفهي في 21 سبتمبر عن قلقه العميق إزاء محاولات بعض الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، بما في ذلك أعضاء جامعة الدول العربية، إضعاف محاولات ضمان المساءلة الدولية عن الجرائم التي ارتكبتها الحكومة السورية وتطبيع العلاقات معها رغم مسئوليتها الأساسية عن المستوى المروع للدمار والوحشية الذي لحق بسوريا وشعبها.
وفي 5 أكتوبر وخلال مناقشة في المجلس حول «الكراهية الدينية»، حذر مركز القاهرة في بيان شفهي من محاولات منظمة التعاون الإسلامي إدراج قوانين التجديف الديني القمعية في الإطار الدولي لحقوق الإنسان، مشيرًا لخطورة استخدام هذه القوانين لتقييد الحق في حرية التعبير وحرية المعتقد، بما في ذلك اضطهاد الأقليات الدينية، ودعا المجتمع الدولي لمقاومة هذه الجهود من أجل الحفاظ على معايير الحقوق العالمية.
الجلسة الـ 54 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بدأت فعاليتها في 11 سبتمبر 2023، وقد شارك فيها مركز القاهرة ضمن مجموعة من شركائه المعنيين بقضايا حقوق الإنسان في المنطقة، مسلطًا الضوء على أوضاع حقوق الإنسان في 7 دول هي: السودان، اليمن، ليبيا، مصر، البحرين، فلسطين وسوريا. مقدمًا 9 مداخلات شفهية فردية ومشتركة أمام المجلس حول أوضاعهم، ومشاركًا في 5 ندوات على هامش الجلسة معنية بمناقشة حالة حقوق الإنسان فيهم.
Share this Post