نظرية المؤامرة وفعلها المدمّر

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

كثرٌ هم الفلاسفة الذين تحدثوا عن دور الشك في إدراك اليقين، منهم الفارابي وابن سينا والجاحظ وديكارت، فالشك المنهجي الذي يتجاوز “خداع الحواس” كما يقول ديكارت هو الذي يمكّننا من اخذ المسافة اللازمة من الإدراك الحسي والمسلمات بغاية الوصول للاستدلال العقلي.

لكن ماذا لو تسرعنا بتفسير ظاهرة ما بالاعتماد على مزاجنا الغاضب او مخاوفنا غير المبررة؟ ماذا لو كانت كل شكوكنا لا تحيل الى تفسيرات عقلانية، بل هي حصيلة ارتيابنا وغياب ثقتنا بأنفسنا أو بالآخرين؟ ماذا لو أسقطنا أوهامنا وتخيلاتنا وأفكارنا المسبقة على “هؤلاء الأخرين”؟ حينها نكون قد خلخلنا تفكيرنا العقلي وخدعنا أنفسنا…وربما ظلمنا الأخرين.
في كتاب “لماذا نصدق نظرية المؤامرة” يقدم أستاذ علم النفس بالجامعات البريطانية، (روب بروثرتن Rob Brotherton)، تفسيرًا يقترب من العلمية لنظرية المؤامرة والأسباب التي تجعلها سريعة التصديق، معتمدًا على تجارب وأبحاث أجراها مع زملائه الأساتذة المختصين، فالنظرية التي تعتمد التشكيك في كل التفسيرات المتداولة للأحداث وتعتبرها دائما مواربة وتخفي الحقيقة، تسوّق دائما إلى فكرة ان هناك فئة من المتآمرين الاشرار الذين يشتغلون في الظلام ، ولهم قدرة كبيرة على نشر البؤس والألم بين الناس، دون رحمة ولا شفقة، تحركهم نزواتهم الشريرة وعقلياتهم المريضة، هذه الفئة من الناس تقدر بما تملكه من مكر على اشعال الحروب ونشر عدوى الأمراض وبث الفوضى، ليصبح كل “حادث سيء وراءه إرادة سيئة من مجموعة شريرة”….
ويستغل أصحاب نظرية المؤامرة الغموض الذي يرافق بعض الأحداث أو النقص في المعلومة أو الجهل ببعض الاسباب، لبناء سردية “مقنعة” تجعلك تصدق روايتهم، خاصة إذا كنت تبحث عن تفسير لحدث غير معتاد، لا تقنعك حوله الروايات الرسمية المتداولة، والمثال على ذلك، ما شاع حول اغتيال كيندي من قبل المخابرات الأمريكية أو القول بأن أحداث 11 سبتمبر 2001 هي من صنع أمريكي لتبرير التدخل العسكري في الشرق الأوسط، أو اعتبار موت الأميرة ديانا لم يكن سببه حادث مرور عرضي، بل إنه مدبر من القصر الملكي في بريطانيا، ولنتناول مثالًا قريبًا منّا عن نظرية المؤامرة، عندما روّج البعض أن الثورة التونسية حركتها دول غربية كانت تسعى لضرب الدولة الوطنية عبر أطراف داخلية، منهم المدونين ونشطاء مدنيين ومعارضين سياسيين، بل وهناك حتّى من كتب عن وجود تنظيم القاعدة ضمن المشاركين في المظاهرات التي طالبت بالحرية والديمقراطية والعدالة !!!
لكنّ ما الذي يجعل مثل هذه النظريات السخيفة مقبولة لدى عامة الناس؟ تستنتج إحدى البحوث أنه “عندما تفقد الناس السيطرة على مشاغل حياتهم ومصاعبها، فإنهم يأخذون في البحث عن أنماط تفسير وهمية، وهذه الأنماط تقلل من حدّة العشوائية والشك والفوضى، حتى وإن كانت التفسيرات تافهة ومحبطة”.

عقلية المؤامرة …عقدة نفسية عدوانية؟
تقول نشرية علم الاعصاب Neuroscience في مقال صادر في 26 جوان 2023، بعنوان “سيكولوجية أصحاب نظرية المؤامرات” بأن “اعتقاد بعض الناس في نظريات المؤامرة ناتج عن مزيج من مكونات شخصيتهم المعقدة ورغباتهم الخاصة، فهم يعتمدون بقوة على حدسهم وكذلك على شعورهم بالعداء تجاه الأخرين، وأحيانًا تطغى عليهم مشاعر التفوق على من حولهم”. إضافة إلى ذلك، أفرزت البحوث التي أجراها مختصوها أن الأشخاص الذين يعتقدون في نظرية المؤامرات هم متوترون وخائفون وهم دائمي الحاجة للإحساس بالأمان في بيئتهم، إضافة إلى تقلباتهم العاطفية واندفاعهم القوي.
لكن الأخطر من تمكنها من الأشخاص، مهما كانت وظيفتهم في الحياة، هي أن تتحول نظرية المؤامرة إلى ذُهان (psychose) مجتمعي، خاصة في فترة الأزمات حين يسود القلق والخوف من الحاضر والمستقبل؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى تهديد النسيج الاجتماعي وتماسكه، وأن تدفع بمجموعات بشرية إلى الركون للعنف ضد من تعتبرهم متآمرين، فمثلًا، التقارير الكاذبة التي قدمها دونالد ترامب والتي تفيد بأن انتخابات 2020 قد وقع تزويرها قد دفعت بمجموعات مساندة إلى استعمال العنف الشديد عند مهاجمة الكابيتول ، في جانفي 2021.

نظرية المؤامرة والشعبوية:
وتنسجم نظرية المؤامرة مع الشعبوية، فكلاهما يقدم تحليلًا بسيطًا وساذجًا وسطحيًا لواقع معقد ومتشعب، مستغلًا غياب الثقة في النخب وكذلك حالة الريبة والغموض التي تسيطر على الحياة الاجتماعية، وكلتاهما تحاول استخدام التبسيط البلاغي والاختزال المفرط لتقديم الصعوبات والعراقيل والفشل المتكرر على انها نتيجة لأفعال مجموعات قوية ونافذة تعمل في السرّ. يقول الاكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville: “بشكل عام، الأفكار البسيطة وحتى الساذجة هي التي يمكنها أن تسيطر على عقول العامّة. ففكرة واضحة ودقيقة حتى لو كانت خاطئة ستكون دائمًا لها قوة أكبر من فكرة صحيحة ولكنها معقدة.”
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي و ما صاحبها من شهية للكتابة دون معرفة أحيانا أو محاولة تدقيق أو غربلة، أو بحث في تفسير الأحداث والظواهر، زاد الاعتقاد في المؤامرات، والغريب أن القارئ، مهما كان مستواه، لا يكلف نفسه أحيانا عناء البحث والتدقيق حول مدى صحة المعلومة التي ينقلها، و هكذا فان “دفع الناس للاعتقاد في نظرية المؤامرة يجعلهم يرون العالم بلونين فقط ، فهو صراع واضح بين الخير والشر، بين الشعب النقي والنخب الفاسدة، المتآمرة”.
عموما ، في زمن الشعبوية تصوغ العقلية التآمرية المخيال السياسي السائد، و تستفيد من تنامي الريبة والعجز في المجتمع ومن تلاشي القيم المشتركة مثل المواطنة والانتماء وكل المعتقدات الجامعة، فالمنافسة السياسية لم تعد تُبنى على سردية المنطق والإقناع ولا على “الخطابات الحجاجية” مثلما يعتقد علماء الاجتماع ، بل تصبح حروبا دون كيشوتية متواصلة ضد أشباح يتحركون في مستنقع المؤامرات ويتحول الفعل السياسي المختلف ، مهما كانت بنيته المنطقية والعقلانية وسلامة مقاصده، الى “مؤامرة تهدد كيان المجتمع”، مجتمع يُفرض عليه المتخيّل ويطغى عليه الارتياب المرضي ، مع ما ينجر عن ذلك من كوارث ومظالم.

المصدر: جريدة المغرب

Share this Post