في موعده الشهري، عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان فعاليات صالون بن رشد، والذي حاول هذا الشهر الإجابة على سؤال؛ لماذا لا يكترث العرب والعالم بالانتخابات في الدول العربية؟ مستضيفًا الباحث والكاتب العراقي حيدر سعيد، والصحفي والمحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي، وأدار اللقاء الحقوقي مسعود الرمضاني.
في البداية حاول الضيوف بحث أسباب عزوف المواطن العربي عن الانتخابات في بلاده، وهل هذا مؤشر على تراجع اهتمامه بالشأن السياسي والشأن العام، أم أن له دلالات أعمق؟ وقد حذر حيدر سعيد من خطورة اختصار مفهوم المشاركة الشعبية في الشأن العام فقط في المشاركة في الانتخابات، مشيرًا إلى أن هذا ما تجتهد النظم السلطوية في ترسيخه، من خلال “تعليب” فكرة المشاركة السياسية في شكل واحد فقط هو طوابير الناخبين، بينما تحظر عليهم المشاركة الحقيقية والفعالة في المجتمع المدني، وتصادر الحياة السياسية الحزبية والنقابية، وتتعمد إقصاء الأحزاب والحركات الشبابية، رغم أن هذه كلها مظاهر وأشكال للمشاركة الشعبية في السياسة والشأن العام. وأضاف حيدر، في مثل هذه الحالات حتى مقاطعة الناخبين للانتخابات قد تنطوي على فعل وقرار سياسي، ولا تعني بالضرورة عزوف أو تراجع اهتمام بالشأن العام، وإنما إدراك واعي أن كل مصادر وأشكال الحياة السياسية قد تم حصرها في عملية التصويت فحسب. ولاسيما أنه بعدما احترفت النظم السلطوية “صناعة الانتخابات” لن يؤدي هذا التصويت إلا إلى ترسيخ وشرعنة هذه النظم القائمة وتجديد ولايتها.
وصناعة الانتخابات هنا -حسب حيدر- لا تعني بالضرورة التزوير أو شراء أصوات الناخبين أو إغراقهم بالوعود الوهمية أو حتى بالمنح العينية، وإنما تفصيل القوانين وتوزيع المقاعد وتقسيم الدوائر واختيار واستبعاد المنافسين ومصادرة الحريات، هذا كله يعصف بإيمان الناخب بالعملية الانتخابية كأداة لتغير النظام الحاكم، خاصة بعدما اختبر “نتائج هذه العملية الانتخابية” وساءه ما أسفرت عنه. ففي معظم بلدان الربيع العربي، أقبل الناخبون على مراكز الاقتراع بكثافة في أول انتخابات بعد الثورة، بينما تراجعت أعدادهم بشكل كبير في الانتخابات اللاحقة. الأمر الذي يعني أن هذا العزوف مرتبط بتوقعاته من هذه العملية، أو رفضه للتصويت كشكل وحيد للمشاركة السياسية المسموحة، بما يخدم فقط السلطة الحاكمة وأحزابها، ولا يسفر عن أي متغيرات جذرية لمصلحة الناخب، ويفتقر لأي معطيات قد تقود لأي تغيير مستقبلي.
ورغم تحفظ الجورشي على فكرة المقاطعة باعتبارها ليست حلًا، ولن تحول دون تمديد ولايات النظم الاستبدادية وأنها: “ليست وسيلة لعزل النظام”، لكنه أكد أنه من الأهمية بمكان قبل الشروع في أي انتخابات ديمقراطية، أن يتم تهيئة الأرضية/السياق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يحمي ديموقراطية هذا الانتخابات. ضاربًا المثل بالوضع في تونس، وكيف أن غياب الوعي الاجتماعي والثقافي والفهم العميق للسياسة ومعنى الديمقراطية قد دفع الناخبين في بعض الأحيان لاختيارات مضرة، شككت في جدوى الانتخابات في حد ذاتها. ورغم ذلك، يبقى حرص الناخبين على المشاركة في العملية الانتخابية -حسب الجورشي- مؤشر ايجابي على تمسكهم بالأمل في التغيير السلمي، وممارسة تسمح لهم بالتعلم بالتجربة والخبرة؛ قائلا: “السياسة كادت أن تموت في تونس وأصبح هناك عزوف ملحوظ عن مجرد متابعة الشأن السياسي، والانتخابات كانت فرصة لتحريك هذا الماء الراقد ولو قليلاً، قبل قرار قيس سعيد بتشكيل هيئة الانتخابات الذي أجهض هذا الأمل.” فهل نتوقع من التونسي أن يشارك في انتخابات بلا منافسين؟ وحسب الجورشي، ثمة أمل وحيد يكمن في وجود مرشح مستقل ينافس قيس سعيد، يلتف الناس والمعارضة حوله، هذا ربما يخلخل الوضع الراهن ولو قليلًا ويجدد الأمل في التغيير. أما لو قرر المنافسين الانسحاب لأنه لا جدوى من المنافسة، فهذا يعني تجديد ولاية النظام الحالي حتى دون أي قدرة على التفاوض أو الضغط تسمح بهامش ولو بسيط من التغيير.
وفي هذا السياق ركز الدكتور حيدر على تفاوت الوضع بين البلدان العربية، مشيرًا إلى أن في بعض البلدان (مثل مصر) لم يسمح النظام الحاكم أصلًا بوجود منافس، وهو ما حدث مع المرشح أحمد طنطاوي في الانتخابات الرئاسية الماضية، فضلًا عن أن النظام المصري نجح تقريبًا في غلق المجال العام بالكامل وصادر كل أشكال وقنوات المشاركة السياسية حتى مجرد التعبير عن الرأي. والشكل الوحيد المسموح للمشاركة السياسية (الانتخابات) أحكم سيطرته على مجرياته وأفرغه من قيمته. بينما ربما الوضع في العراق وتونس يسمح ببعض المقاومة والتفاوض والضغط. وفي النهاية كل النظم السلطوية مجبرة على إجراء الانتخابات بشكل دوري ومنتظم، لأن الانتخابات تعطيها شرعية؛ “صحيح أنه لا وجود للديمقراطية دون انتخابات، لكن ليست كل انتخابات دليل على الديمقراطية”.
وعن أشكال الضغط والمقاومة تطرق الجورشي لفكرة (المقاومة القانونية والتشريعية) والتي اعتبر أن ظهورها في تونس مؤشر على محاولات ما زالت مستمرة لمواجهة الاستبداد، حتى بمجرد الطعن على قرارات الرئيس والبحث في ثغرات القانون والدستور عما يدحض مساعيه للانفراد بكل السلطات. كما أشار صلاح أنه ورغم كل القمع، لا يمكن أن ننكر أن هناك تغيير، فثمة تراجع في شعبية قيس سعيد اليوم مقارنة بلحظة اختياره. هذا يعني أن أصوات المعارضة ما زالت تجد طريقها لآذان الناخبين. كما أن تحول في الوعي السياسي لدى النخب بدأ يلوح في الأفق، فلم تعد الأزمة اليوم هي حزب النهضة، فثمة أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية أولى بالعناية والاهتمام. فضلًا عن إدراك بدأ يتشكل أنه لا سبيل للإصلاح الاقتصادي وتحسن أوضاع المعيشة طالما يتقلص هامش الحريات وينفرد شخص واحد بالقرار ويرفض النقد أو الشورى، وبالتالي عاد ملف الحقوق والحريات المدنية والسياسية لقائمة أولويات أحزاب وقوى المعارضة. وهذا لا ينطبق على تونس فقط وإنما ينطبق على بلدان عربية أخرى.
لكن وإن كان للمعارضة هذا الدور الفعال في الضغط والتفاوض والمقاومة، فما الذي يمنعها من الالتفاف حول مرشح واحد لمواجهة مرشح السلطة في معظم الدول العربية؟
حسب الدكتور حيدر، هناك عوامل متضافرة لا بد أن تجتمع وتتزامن كي تدفع بذلك، فثمة جيل جديد من المعارضة له مفاهيمه ولغته وأدواته التي يجب أن ندركها، الأحزاب الأيدولوجية الكبرى بصورتها التقليدية قد انتهت، وظهرت تيارات أو أحزاب انتخابية تجمعها الانتخابات فقط ثم تفرقها الممارسات السياسية، بل أن أشكال ممارسة السياسة قد اختلفت. هذا بالإضافة إلى عوامل ترتبط بفرص المقاومة المتاحة في كل بلد، سواء مقاومة تشريعية، أو مقاومة بالتظاهر والاحتجاج، أو مقاومة عبر منصات الرأي والإعلام، أو عبر الأحزاب والانتخابات، أو من خلال المجتمع المدني. وفي المقابل هناك مساعي من كل نظام للسيطرة على هذه المقاومة بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال ربما يسيطر النظام الحاكم على المجتمع المدني عبر القوانين القمعية، أو بتغلغل السلطة التنفيذية في أعماله وقراراته، أو بمساعي الشراكة بينه وبين الحكومة كمحاولة لإخضاعه. وبالمثل يتبع كل نظام أساليبه لمواجهة المعارضة والحيلولة دون توحد أطيافها. هذا بالإضافة لعوامل أخرى مثل الوضع الاقتصادي ومدى قدرة النظام على تلبية الحد الأدنى من احتياجات المواطنين وفي المقابل قدرة المعارضة على طرح بدائل اقتصادية آمنة، حجم الضغط أو الدعم الغربي مع أو ضد النظام الحاكم، درجة دعم المؤسسة العسكرية للنظام الحاكم وإحكام قبضتها لصالحه أو ضده، الأوضاع الإقليمية وحجم التوازنات، طبيعة المتغيرات الدولية المواكبة وانعكاساتها، واختتم حيدر اللقاء بأن: “لا أحد يستطيع أن يجزم أن صفحة الربيع العربي قد انطوت، رغم تعثر موجتيه الأولى والثانية، لكنه قد يتجدد يوم تنجح المعارضة في الجمع والربط المتوازن بين المطلب الاقتصادي والاجتماعي وبين خطتها للإصلاح والانتقال الديموقراطي.”
شاهدوا التسجيل الكامل للندوة هنا:
Share this Post