«ليسوا ضمن الأحياء أو الأموات؛ فأين هم؟»
في 29 سبتمبر 2023، ذكرى مرور ثمانية عشر عامًا على اعتماد «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية»، بعد الاستفتاء عليه، وهو قانون عفو يمثل التطور الطبيعي لمناخ الإفلات من العقاب الذي بدأ في أعقاب أحداث التسعينيات في الجزائر.
صراع التسعينيات والممارسة الممنهجة للإخفاء القسري
خلال الفترة بين 1992 و1998، علق الجزائريون وسط صراع دموي بين الجماعات الإسلامية من جهة وسلطات الدولة من جهة أخرى؛ أسفر عن ارتكاب الجانبين لممارسة الإخفاء القسري بشكل منهجي، فضلًا عن العديد من انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى. وحتى وقتنا هذا، رصدت منظمات المجتمع المدني الجزائرية والدولية ما بين 10.000 إلى 20.000 حالة اختفاء قسري،[i] تقترن معظمها باعتقال تعسفي، فضلًا عن ممارسات التعذيب والمعاملة غير الإنسانية والعنف الجنسي والقتل خارج نطاق القانون. ولأن الإخفاء القسري يتم بمعزل عن القانون والقضاء؛ فالضحايا عرضة دائمًا لانتهاكات دون حماية قانونية. فيما تعد أيضًا العائلات، التي كانت ولا تزال تنتظر معلومات عن مصير أحبائها، ضحايا للتعذيب المطول.
الميثاق كضمانة للحصانة القضائية
ورغم إدانة القانون الدولي لجريمة الاختفاء القسري، واعتبارها جريمة ضد الإنسانية حين تمارس بشكل منهجي وواسع النطاق، مثلما كان الوضع في التسعينيات؛ فإن رد الدولة الجزائرية، منذ انتهاء الحرب الأهلية، يعكس إصرارها على التستر على جرائم الماضي في إطار ما يسمى بأجندة المصالحة والوحدة الوطنية، وهي العملية التي تضمن الحصانة القضائية لجميع مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الجزائر.
في واقع الأمر، منح إصدار قانون الوئام المدني، في أوائل 1999، إعفاءات وعقوبات مخففة للمتورطين في أعمال إرهابية. [ii] وفي عام 2000، اتسعت امتيازات هذا القانون لتضم أيضًا الجماعات المسلحة التابعة للجيش الإسلامي للإنقاذ.[iii] وبمجرد اعتماد الميثاق عام 2005، مصحوبًا بأربعة نصوص تنفيذية دخلت حيز التنفيذ عام 2006، تم منح الحصانة أيضًا للموظفين العموميين، الذين ارتكبوا أفعالًا مستهجنة لحماية أمن الممتلكات والأفراد والمؤسسات والأمة.[iv] جميع هذه الإجراءات تتعارض مع التزامات الجزائر بموجب القانون الدولي؛ فوفقًا للجنة المعنية بحقوق الإنسان،[v] لا تستطيع الدول الأطراف إعفاء مرتكبي جرائم الاختفاء القسري من مسئوليتهم الشخصية من خلال اعتماد قوانين العفو.
مسار يحرم العائلات من الوصول إلى الحقيقة والعدالة
حتى يومنا هذا، لا تزال الترسانة القانونية، التي وضعتها الدولة الجزائرية، تحرم أقارب ضحايا الاختفاء القسري من حقوقهم الأساسية المنصوص عليها في الدستور الجزائري والمعاهدات الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
أولًا، يعزز «ميثاق السلم والمصالحة الوطنية» تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب، وذلك من خلال نظام التعويضات؛[vi] الذي يتطلب من عائلات الضحايا تقديم شهادة وفاة. ويعد هذا النظام غير إنساني للعائلات على وجه الخصوص؛ إذ غالبًا ما تضطرها حالتها الاجتماعية والمادية بعد اختفاء أحبائها للموافقة عليه. ونتيجة لذلك، تواجه العائلات التي اتخذت هذه الخطوة حالة من التشوش التام، إذ يتكون لديها انطباع بخيانة ذكرى قريبها المفقود، وخيانة نفسها فيما يتعلق بضرورة بحثها عن الحقيقة. وترى لجنة مناهضة التعذيب أن إخضاع التعويض لإصدار حكم بالوفاة قد «يمثل شكلًا من أشكال المعاملة اللاإنسانية والمهينة».[vii]
في المقابل، فإن الأسر التي ترفض الامتثال لهذا الإجراء؛ تتعرض للعديد من المضايقات من جانب السلطات المصرة على أن «هذا هو القانون»، أو تتلقى إشعارًا رسميًا بالذهاب إلى الولاية لبدء العملية، واستدعائها للمثول أمام محكمة الأسرة. وفي حال إصرار العائلات على رفض التعويضات، فإن مكتب المدعي العام بإمكانه إصدار تصريح بالوفاة من تلقاء نفسه، دون موافقة العائلة.
هذا بالإضافة إلى أن هذا التعويض المالي، ليس كافيًا أو مناسبًا بأي حال من الأحوال؛ إذ لا يتم تحديد التعويض وفقًا للضرر الذي لحق بالضحايا، على نحو يجعل هذا النظام أقرب لإعادة الرواتب والمعاشات التقاعدية للمختفين. كما أن هذا التعويض لا يوفر جبر الضرر الكامل؛ إذ لا يسبقه أي تحقيق لمعرفة مصير المفقود.
قانون ينتهك الحقوق الأساسية للعائلات والنشطاء
في سياق متصل، ينص قانون العفو على تدابير يتم تعزز من فرض حظر واضح على التمتع بالحق في حرية التعبير وممارسته؛ إذ يؤيد الميثاق سردية وطنية رسمية من التاريخ، تغطي فقط جزءً من ذاكرة الصراع. فيما تهدد، بشكل مباشر،[viii] أي شخص يرغب في التنديد علنًا بانتهاكات حقوق الإنسان أو بدء نقاش حولها، بالوقوع تحت طائلة عقوبة السجن لمدة تتراوح بين 3 و5 سنوات.
ونتيجة لذلك، لا يتم الإعلان عن قبول أي شكوى مقدمة بحق موظفي الدولة بسبب الاختفاء القسري، وإجبار الصحفيين على ممارسة الرقابة الذاتية، وكثيرًا ما تتعرض تجمعات العائلات والمدافعين عن حقوق الإنسان، والتي تستهدف مكافحة الإفلات من العقاب، للقمع العنيف.
وتعكس أعمال القمع التي أقرها ميثاق 2005 الوضع الحالي لحقوق الإنسان في الجزائر، إذ يتعرض المدافعون عن حقوق الإنسان ووسائل الإعلام وغيرهم من أعضاء المجتمع المدني، للمضايقة والسجن بشكل مستمر من جانب السلطات القضائية. وحسبما ذكر كليمان فول، المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، في 26 سبتمبر2023، يجب على السلطات الجزائرية اتخاذ جميع التدابير المناسبة والضرورية لفتح المجال المدني حتى تتمكن الجزائر من المضي قدمًا.
الأمر نفسه ينطبق على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية؛ فإذا أردنا تجاوز الانقسامات داخل المجتمع الجزائري، ينبغي على الدولة وضع آليات لتسليط الضوء على مصير المختفين، وضمان الوصول للعدالة والتعويض العادل للضحايا. وهو ما يفترض إلغاء تلك القوانين التقييدية، واستعادة المساحة اللازمة للنقد للمجتمع المدني، حتى يمكن التعبير عن جميع الذكريات والتعايش معها.
- التوصيات
في سياق أحداث التسعينيات في الجزائر، ونظرًا لأن الاختفاء القسري يشكل جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم؛ ينبغي ألا يتمكن مرتكبوها من الاستفادة من العفو.[ix] وفي هذا الصدد، فإن الميثاق ونصوصه التطبيقية عاجزين عن وضع حل نهائي لقضية «المختفين» في الجزائر.
من أجل ميثاق الحقيقة والسلام والعدالة نوصي بـ:
1) البحث عن الحقيقة
أ. يجب أن تخضع جميع المعلومات المرتبطة بمصير الشخص المختفي، سواء التي يتم جمعها في سياق قضائي أو في أي سياق آخر، لتحقيق كامل ونزيه. وفي حال بقاء الضحية على قيد الحياة، ينبغي تسليمه لحماية القانون. وإذا لم يكن كذلك، فيجب تسليم جثته لذويه. كما ينبغي ضمان قدرة جميع ضحايا الاختفاء القسري على الوصول للنتائج النهائية للتحقيق.
ب. على السلطات العامة المختصة استخدام كافة الوسائل الفنية والقانونية لتحديد أماكن المقابر الجماعية والمقابر المجهولة، والتعرف على الجثث وتوضيح ظروف وملابسات الوفاة والدفن، وإعادة الرفات إلى ذويها. على أن تشمل هذه التحقيقات الأعمال الأرشيفية ذات الصلة وجمع الشهادات من الأجهزة الأمنية وأعضاء الجماعات الإسلامية الذين تخلوا عن السلاح، إلى جانب العاملين في مجال الصحة والمحاكم.
ج. على سلطات الدولة توفير قاعدة بيانات لجمع الحمض النووي لأفراد عائلات المختفين على أساس طوعي، والسعي لتحديثها باستمرار من خلال مقارنة المعلومات الجديدة باستخدام التقنيات الجديدة.
2) وضع حد للإفلات من العقاب
د. على السلطات المختصة فتح تحقيقات فورية ونزيهة وبشكل منهجي في جميع حالات الاختفاء المزعومة، والتي يحتمل أن يكون المحرض أو الجاني أو الشريك فيها موظف عمومي أو على صلة به.
ه. يجب إعلان قبول أي شكوى جنائية بشأن شخص مجهول ضد أي موظف عمومي، والتحقيق فيها فورًا لتحديد المسئولين عنها والمتواطئين.
و. على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة لضمان استقلال وحياد القضاء في الجزائر، وهو شرط لا غنى عنه، وتفعيل الآليات القضائية بشكل مناسب للسماح بتقديم مرتكبي جرائم الاختفاء القسري للعدالة وضمان التعويضات للضحايا.
3) سبل الانتصاف المناسبة والكافية
ز. على الدولة ضمان أقصى قدر ممكن من التعويض، بما في ذلك التعويض المالي المناسب والتأهيل المعنوي والنفسي للضحايا.
4) ضمانات عدم التكرار
ح. على الدولة احترام وحماية وضمان وتعزيز حريات الرأي والتعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي لأولئك الذين يطالبون بالحقيقة والعدالة فيما يتعلق بحالات الاختفاء القسري وبشكل عام.
ط. على الدولة حماية جميع الضحايا وأسرهم من الاعتداءات المحتملة على سلامتهم الجسدية والمعنوية التي قد يعانون منها نتيجة عرض مظالمهم.
ي. على الدولة الشروع في بدء عملية إحياء ذكرى شاملة وواضحة قدر الإمكان.
المنظمات الموقعة:
- The Collectif des Familles de Disparu.e.s en Algérie (CFDA)
- Association Djazaïrouna des Familles Victimes du Terrorisme Islamiste
- Association des parents et amis de disparus au Maroc (APADM)
- Association Ex-Prisonniers politiques chiliens en France
- Association ¿Dónde Están? – Où sont-il ?
- Associations Anyakayder et MebyaderCairo Institute for Human Rights Studies
- Comité pour le respect des libertés et des droits de l’homme en Tunisie (CRLDHT)
- Comité de sauvegarde de la Ligue Algérienne des Droits de l’Homme
- Comité de coordination des familles des disparus et des victimes de la disparition forcée au Maroc
- Euromed Droits
- Fédération internationale pour les droits humains (FIDH)
- Fédération Euro-Méditerranéenne contre les disparitions forcées (FEMED)
- Fédération des Tunisiens Citoyens des deux Rives (FTCR)
- Ligue des droits de l’homme (LDH)
- MENA Rights Group
- Organisation Marocaine des Droits de l’Homme (OMDH)
- Réseau Euromed des ONG Maroc
- Riposte Internationale (RI)
- Belady Foundation for Human Rights
أعضاء المجتمع المدني:
- Aissa Rahmoune, vice-president of the Fédération internationale pour les droits humains (FIDH) and coordinator of the Comité de sauvegarde de la LADDH
- Abdelhak El Ouassouli, member of the Comité de coordination des familles des disparus et des victimes de la disparition forcée au Maroc
- Ali Aitdjoudi, president of Riposte Internationale (RI)
- Cherguit Djegdijga, mother of a disappeared in Algeria
- Dalel Aidoun, lawyer at SOS Disparus
- Dalila Abdellaoui, sister of a disappeared in Algeria
- Elena Salgueiro, president of the organisation ¿Dónde Están?
- Family Ouzzame, victims of enforced disappearance in Morocco
- Fatma Zohra Boucherf, mother of a disappeared, Secretary General of the organisation Djazaïrouna des Familles Victimes du Terrorisme Islamiste
- Fatima Lakhel, spouse of a disappeared in Algeria
- Lila Mokri, journalist and editor in chief
- Mouhieddine Cherbib, FTCR et CRLDHT
- Naoufal Bouamri, lawyer in Morocco
- Nedjma Benaziza, grand-daughter of a disappeared in Algeria
- Nesroulah Yous, uncle of a disappeared in Algeria and human rights defender
- Ouahiba Aidaoui, sister of a disappeared in Algeria
- Rachid El Manouzi, former disappeared and brother of a disappeared president of l’Association des parents et amis de disparus au Maroc, et secrétaire général de la FEMED
- Wadih Al Asmar, president of Euromed Rights
[i] «الاختفاء القسري في الجزائر: جريمة ضد الإنسانية»، تقرير تجمع أهالي المختفين في الجزائر، 2016.
[ii] المصدر نفسه.
[iii]المصدر نفسه.
[iv] المادة 45 من ميثاق السلم والمصالحة الوطنية.
[v] اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، آراء، البلاغ رقم 1588/2007 بن عزيزة ضد الجزائر، يوليو 2010، الفقرة. 9.9؛ اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، التعليق العام رقم 20 بشأن المادة 7 (حظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة)، 10 مارس/آذار 1992، الفقرة. 15: «العفو لا يتوافق عمومًا مع واجب الدول في التحقيق في مثل هذه الأفعال».
[vi] الفصل الرابع من الميثاق: «إجراءات دعم سياسة التكفل مع ملف المفقودين».
[vii] الملاحظات الختامية لعام 2008 المتعلقة بامتثال الجزائر لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة اللاإنسانية.
[viii] المادة 46 من الميثاق.
[ix] المادة الأولى، اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
Share this Post