جمال الأدب وقبح الواقع

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني

“أيها الناس:

لقد أصبحت سلطانا عليكم
فاكسروا أصنامكم بعد ضلال،

واعبدوني، إنني لا أتجلى دائما،
واجلسوا فوق رصيف الصبر،

حتى تبصروني
اتركوا أطفالكم من غير خبز

واتركوا نسوانكم من غير بعل،

واتبعوني
أحمدوا الله على نعمته
فلقد أرسلني كي أكتب التاريخ،

والتاريخ لا يكتب دوني”

(نزار قباني، السيرة الذاتية لسياف عربي)

ما يجمع بين قصائد نزار قباني الملتزمة، مثل مطلع القصيدة اعلاه و”تقرير سري عن بلاد قمعستان” و”قراءة ثانية لمقدمة ابن خلدون” وغيرها ، هو المعنى المباشر الخالي من طلاسم الرموز الشعرية والاستعارات المعقدة والقياسات الملتوية، لأن  قباني يرى  نفسه انه “شاعر بسيط” ، يريد ان يُقرأ، من قبل الجميع ، ، يشتغل في قصائده على معادلة تتمثل في “تحويل الشعر العربي الى شاطئ شعبي يرتاده الجميع”  وسمفونية تستمتع بسماعها  العامّة،  يُقرأ دون عناء ،، فأي معنى لنص ، نثري او شعري لا يستوعبه القارئ ، نص لا يجمع بين الابداع و متعة القراءة والبساطة ووضوح الرسالة ؟

فالشعر العربي الملتزم، في نظر العديد من الشعراء، لا يجب ان يتوجه الى النخبة، بل الى المواطن العادي ذي الثقافة المحدودة ليوقظ وعيه النائم ويثير حيرته وتساؤلاته، كي يفهم  دون ترميز ولا إيحاءات ان شظف عيشه وهزائمه المتتالية  وهمومه الثقيلة  ليست قدرا محتوما وليست، ايضا، عقابا الاهيا، بل سببها طاغية متسلط، تتوسع دائرة عسفه وقمعه بمقدار خنوع مواطنيه وصمتهم، فهل ترضى ان يسلب منك شخص، لا يفوقك قدرة ولا ذكاء ولا معرفة، حريتك ويفتك منك رغيفك  ورغيف ابنائك ويبيع وطنك دون ان تحتج وتصرخ؟

فلتعي ، ايها المواطن، ان حاكمك    ليس نصف الاه وليس له ذكاء خارق ولا عبقرية فذة، بل احيانا ما يكون ساذجا وهامشيا وعديم الجدوى قبل وصوله للكرسي وبعده، لكن ما ان   تسعفه الظروف بتولي السلطة حتى تسارع بطانة انتهازية ومتسلقة   بمحو ماضيه او تلميعه حتى يناسب “مقامه” وتنتفع  هي من استمرار وجوده،

“جمال تصوير القبح”:

لكن تبقى قوة الادب، شعرا ونثرا ورواية، هي في إنزال هؤلاء المستبدين من عليائهم المزيف ووضعهم في المكان الذي يستحقونه، دون مساحيق ولا بهرج، عبر جمالية شاعرية سلسة ومستحبة، تكشف بشاعة قبحهم. فشخصية البطريرك  في رائعة غارسيا ماركيز ، ضعيفة ومهزوزة ، فهو  ضعيف  وجبان ولا يستمد قوته الا من وجود امه ، التي سماها “قديسة الوطن”، فانت حين تقرأ الرواية ترى الابداع في تصوير بشاعة البطريرك  وجنونه، هو الذي يكتب على المراحيض العمومية “اعيش انا ويموت ضحاياي ” مقولة ترددها الرعية بمزيج من السذاجة والخنوع، لان  المجتمعات الهشة ، مثل جسم منهك  الذي تترصده الامراض الخبيثة ، تجدها سطحية و ساذجة ومتهيأة لكل انواع الاستبداد، فالتربية العائلية والثقافة العامة والمدرسة والمجتمع والتاريخ، كلها تعدّ المواطن الخانع والكسول ،المستعد لاستبدال حريته باي ثمن مهما كان بخسه ، في هذه التربة ، يأتي دور النخب ، الثقافية والدينية، المتملقة والطامعة لتنفخ في صورة الحاكم  وتقديمه كشخصية خارقة ، فهو المفكر والمدبر والمنقذ من كل الشرور والوطني الغيور…

فمن النخب من يلعب دورا كبيرا في تسويغ الظلم وتفعيص الحقائق، وهي فعلا اداة رهيبة لا تقل خطورة عن القوى الصلبة التي تسند السلطة، وذلك لما تملكه من قدرة على توظيف معرفتها في التبرير والتأويل،

أداة تبرير:

على سبيل الطرفة، أورد ابن عبد ربه في “العقد الفريد” ان خالدا بن عبد الله القسري، وكان امير مكة، قد صعد منبر الخطبة يوم جمعة، فحمد الله وصلّى وسلّم على رسوله وأثنى على الحجاج بن يوسف وأطنب في وجوب طاعته “لسداد حكمته وسعة عدله ودماثة خلقه”،

ولما كانت الجمعة الموالية ورد عليه كتاب الخليفة سلميان بن عبد الملك (وكان قد غضب من الحجاج) يأمره فيه بشتم الحجاج واظهار عيوبه، فصعد المنبر وقال:

“ان ابليس كان من الملائكة ، يُظهر طاعة الله ، لكن الله علم بخبثه وغشه ، واراد فضيحته ، فأمره بالسجود لادم،،، فظهرت حقيقته للملائكة فلعنوه …

كذلك كان الحجاج يظهر من طاعة لأمير المؤمنين ما كنّا نرى له فضلا ،،، لكن الله اطلع امير المؤمنين من غشه وخبثه ما خفى عنّا فافتضح امره ولعنه ،، فالعنوه لعنة الله عليه،،

ثم نزل من على المنبر…

الاصنام لا تصنع نفسها:

لم يتغيّر الاستبداد منذ اقدم العصور ، مرورا بالفاشية والنازية في القرن العشرين وصولا الى الأنظمة الشعبوية  الزاحفة اليوم، التي ما انفكت تفرّخ ، مستفيدة أزمات اقتصادية واجتماعية بدأت تضع كل مقومات فلسفة التنوير والحداثة موضع تساؤل، فهو يحمل دائما نفس العلامات ، طموح جامح  وغير متوازن وشراهة مرضية للسلطة والتسلط والة دعائية  تشحذ تضخم الانا بداخل حاكم متعجرف وتستفيد من جموح غروره … ونهاية، أحيانا، مأسوية.

قبل حوالي ثلاثة قرون، كتب مونتسكيو عن ايليوس القيصر ، الذي عاش قبل اكثر من الفي سنة ، واصفا كيفية استحواذه على كل السلطات وخبث بطانته ونهايته الكارثية ، وانت تقرأ ذلك ، يخيّل اليك انه يتحدث عن أي طاغية عربي  اليوم :

“عندما اتى يوليوس قيصر على كل منافسيه من أنصار الحكم الجمهوري، بدأ كل اعضاء مجلس الشيوخ في التنافس من اجل تمكينه من كل الصلاحيات والغاء كل القوانين التي تحد من سلطاته، وتنافسوا في تعظيمه، اصدقاؤه يريدون ارضائه واعداؤه يرومون تضليله، وقد ذهب بعضهم الى حد اقتراح قانون يسمح للقيصر بمضاجعة كل من يريد من النساء، وقد اغرى هذا الخنوع اللامتناهي القيصر ليزيد من طغيانه وثقته في نفسه …حتى اغتاله أقرب الناس اليه في بهو المجلس.”

وعي سياسي بطئ:

هل يمكن ان تتحول الديمقراطية الى استبداد؟ ايليوس القيصر لم يكن دكتاتورا، قبل ان يمنحه مجلس الشيوخ في روما الحكم المطلق حتّى  يقوم  بإصلاحات اقتصادية وسياسية ويعيد بناء  البنية التحتية التي هدمتها الحرب، وهتلر لم يكن ليحاول تطبيق جنونه النازي ويخرب العالم لولا الانقسام والصراع الذي اضعف النخب السياسية الالمانية، ذلك الاستقطاب الحاد الذي يسمح دائما بتسرب الافكار الجامحة التي تحاكي الجنون ، فالفاشية لا تنزل من السماء، مثلما قال الصحفي جان ميشال كاتربوان Jean-Michel Quatrepoint ، فهي نتاج لعمى النخب السياسية والثقافية ، اذ “هناك دائما سيل  من الاخطاء القاتلة التي ترتكبها كل النخب ، فعنادها الطفولي  لا يترك هامشا للحوار، وتنافسها  الاني لا يترك مجالا للتفكير في بدائل واقعية  وهي، لجنونها، تصمّ اذانها عن المتغيرات المتسارعة التي تحدث داخل المجتمعات،” اختزال يستحق التوسع والتفكير لكل من اراد فهم الواقع اليوم.

المصدر: جريدة المغرب

Share this Post