خطابات الانكار تعقّد الازمات

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني

“سيصبح كل شيء على ما يرام ذات يوم، هذا هو أملنا … أما أن نقول: إن كل شيء على ما يرام، فهذا هو الوهم” رواية  كانديد

خلال شهر ديسمبر 2019، حذّر الطبيب الصيني “لي” من وجود فيروس جديد وخطير وسريع الانتشار، فكانت المكافأة ان أطرد واوقف بتهمة “نشر اخبار زائفة”، لكن في 20 جانفي 2020، أي بعد ثلاث أسابيع من إيقافه، اعترف النظام الصيني علنا بوجود عدوى فيروس كورونا، ولكن بعد انتقال المرض الى إقليم “يوهان” وموت العديد المواطنين، منهم العاملين بالمستشفيات الذين اصابتهم العدوى قبل قرار التوقي.

وهذا الانكار لا يخص النظام الصيني او أي نظام شمولي اخر، فعديدة هي الأنظمة التي ما ان تواجه مشاكل حقيقية وتعجز عن حلها بسبب نرجسية قيادتها أو ضيق أفقها أو نقص تجربتها في الحكم أو ندرة امكانياتها وعجزها ان استنباط أفكار لتفادي المصائب والجوائح تفضّل اما الانكار المكابر، بدعوى ان “كل شيء على ما يرام” كما قال بنجلوس في رواية “كانديد” ، او البحث عن كبش فداء لتحميله مسؤولية الفشل والعجز،

وحسب علم النفس فان الانكار ، الذي يُعرّف على انه رفض معاند  لحدوث شيء ما او ازمة او كارثة ما هو الا الية تكيّف  دفاعية  يستعملها الأشخاص لإبعاد كل ما يسبب لهم القلق او الازعاج , وهو أحيانا “رد فعل طبيعي” لمواجهة الصدمات، وقد يكون أحيانا أخرى، حيلة أو   وسيلة لإيهام من حولنا بان الأمور سائرة على نحو عادي ، و  يمكن ان يكون محاولة  للحفاظ على صورتنا الإيجابية لدى الاخر ، وتحميل مسؤولية الإخفاق  للآخرين، اولئك الذين يريدون افتعال المشاكل لنا  ، فالصين، مثلا،  اعتبرت، في بداية العدوى، ان الغرب “عبر الياته الدعائية”  هو المسؤول عن نشر اخبار المرض ، وذلك للأضرار بمصالحها  .

والانسان كثيرا ما تغلب عليه “إرادة طبيعية” لتجاهل كل ما يزعجه والاهتمام بما لا يسبب له الاكتئاب او القلق، لان “وعينا انتقائي يروم إيجاد تسويات ترضيه مع الواقع” لكن القضية التي يجب ان ينتبه اليها علماء النفس هو ان إرادة التسوية تجحف في مرحلة معيّنة لتصل الى حد انكار الواقع تماما، بما ينجرّ عن ذلك من مخاطر.

في السياسة، يقول عالم النفس الفرنسي، جان بول مياليJean Paul Mialet ، “ان السياسيين  الذين  يصلون  الى  أعلى السلطة  كثيرا ما يصيبهم   الغرور الى حد فقدان العلاقة بالواقع ، ويعيشون  في دوائرهم الضيّقة ، لانهم  لا يرون   الواقع  الا عبر  امزجتهم الخاصة أو عبر مساعديهم الذين لا تتجاوز نصائحهم وآرائهم تصوير الواقع بما يتناسب ومصالحهم ورغباتهم في إرضاء الرئيس”

“الرئيس لا يحبذ الاخبار السيئة”

في كتاب “حالة انكار” State of denial ، يروي الكاتب والصحفي المتميّز بوب ودوورد قصة رفض الإدارة الامريكية بقيادة جورج بوش الاصداح بالحقائق المتعلقة بالحرب الامريكية على العراق وينكر الرئيس الأمريكي المصاعب التي يواجهها جيشه هناك امام تصاعد العمليات الإرهابية والعنف الطائفي والمقاومة الرافضة  للاحتلال.

المشكل الأساسي، حسب ودوورد، ان الرئيس بوش المعتد بنفسه والمزهو بانتصاره على نظام صدام حسين، يرفض ان يستوعب الحقائق التي لا تعجبه وفي الان نفسه يجد المسؤولون الذين يحيطون به، والذين اعتادوا التملق، حرجا كبيرا في مصارحته ويحرصون على ارضائه عبر مده فقط بالأخبار التي تسرّه، والخلاصة ان لا الرئيس يريد معرفة حقيقة الأوضاع ولا فريقه الذي تنقصه الخبرة والتجربة والجرأة يحرص على مدّ الرئيس بها.

السيد قيس سعيد، أيضا، لا يريد الاعتراف بوجود ازمة في البلاد، ازمة طالت اغلب مجالات الحياة، فبالإضافة الى الازمة السياسية التي رافقت إجراءاته ، هناك ازمة اقتصادية واجتماعية ليست بالضرورة مرتبطة كلها بالحوكمة وتسيير البلاد، فمنها ما هو متصل بالظروف المناخية، وما عرفته البلاد من جفاف كان له مردود سلبي على المحصول الفلاحي ، ومنها ما هو متصل بالظروف الدولية، كالحرب على أوكرانيا، وصعوبة توريد الحبوب، بالإضافة الى شح موارد الدولة وأزمة المديونية التي يعرفها ديوان الحبوب وارتفاع كلفة الدعم، فأبعاد الازمة مركبة وتشخيصها لا يغيب عن أي متابع ، وقد أطنب في توصيفها الخبراء والاعلاميون ، في الداخل والخارج ، حتى ان الدول الغربية ، وخاصة دول شمال المتوسط أصبحت تخشى من انهيار اقتصادي في تونس تكون له ارتدادات على مستوى الهجرة غير النظامية.

انكار واتهام

في الحقيقة ، كلما واجه المواطنون ازمة او حتى صعوبة في توفير حاجياتهم الأساسية ، الا وخرج السيد قيس سعيد ليعطي تفسيره الخاص الذي لا يخرج عن امرين ، اما الانكار ، باعتبار ان “هناك أطرافا معروفة تروج الاخبار الزائفة” اذ ان  كل المواد متوفرة ، وهذه الاطراف تفتعل  ذلك بغاية “زعزعة الامن والاستقرار الاجتماعي” او ان نفس الأطراف المتآمرة قد افرغت السوق عبر الاحتكار والمضاربة بغاية الزيادة في الأسعار ، وهي هنا “دوائر وأسماء معروفة” (لدى السلطة) تعبث بقوت المواطن وبحياته ، ويتوعدها الرئيس دائما  بالمحاسبة وبانه لن يترك شعبه  المخلص والوفي “لهؤلاء الذين يعبثون بحقه في الحياة الكريمة”…  فهل أدرك بعدُ ان مروية المتآمرين والفاسدين والخونة بدأت، منذ مدة، تفقد تأثيرها  امام صخب الواقع؟ والى متى سيظل الرئيس حبيسا لسردية واحدة لا يستطيع انتزاع نفسه منها؟ يبدو لي ان قيس سعيد هو من أولئك الذين يريدون ان يناسب الواقع ما يحملونه من معتقدات راسخة، وهذا ما يجعله في حالة انكار دائمة، ولكن للأنكار أحيانا ثمن.

الكاتب الأمريكي الساخر، مارك توين، نحت، في ثلاثينات القرن الماضي، عبارة طريفة تقول ان «الانكار ليس مجرد نهر في مصر” Denial is not just a river in Egypt وهو جناس بين كلمتي  Nile /Denial ويقصد به ان الانكار  اخطر من مجرد اعتباره امرا بعيدا عنّا، بُعد نهر النيل ، أي  لا تأثير له على محيطنا الضيّق،  فإنكارنا للواقع  يغرقنا في نهر من الأوهام ، وحتما سيكون  تأثيره اخطر ، اذا تجاوز الأشخاص ليطال  حاضر  ومستقبل بلد يعيش هشاشة غير مسبوقة، وعلى كل المستويات.

المصدر: جريدة المغرب

Share this Post