ردًا على تقرير مصر للجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة
في 5 أكتوبر أرسلت الحكومة المصرية تقريرها الدوري المجمع[1] الخامس والسادس والسابع والثامن إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. التقرير الذي أرسلته الحكومة، بعد غياب متواصل لعقدين، ليس سوى استمرارًا غير منطقي لمحاولات تبييض وجه النظام المصري إزاء الانتقادات الدولية المتصاعدة لملف حقوق الإنسان، وتلميع صورتها المشينة أمام الهيئات التعاقدية بالأمم المتحدة؛ خاصةً عقب إصدار 32 دولة بالأمم المتحدة إعلانًا مشتركًا ينتقد بحدة وضعية حقوق الإنسان في مصر.[2]
في هذا السياق، يؤكد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن التعذيب في مصر ممارسة منهجية، تستخدمه الدولة لفرض سياستها القمعية، أو كوسيلة سهلة لحل القضايا الجنائية بدلًا من ممارسة العمل الشرطي واحترام القانون، فضلًا عن تعمد استخدام التعذيب كعقاب أو انتقام من المعارضين السياسيين أو المتهمين في قضايا جنائية أو ضد المنتمين لطبقات اجتماعية فقيرة.
توفر الدولة المصرية لمرتكبي التعذيب مناخًا ملائمًا للإفلات من العقاب، وذلك من خلال تواطؤ النيابة العامة ومؤسسة القضاء، فضلًا عن غياب أي رقابة ذات معنى من البرلمان. كما ساهم تواطؤ النيابة العامة والقضاء في تنفيذ أحكام إعدام في قضايا انتُزعت فيها الاعترافات تحت التعذيب،[3] والتغاضي عن استدعاء الشهود أو توقيع الكشف الطبي على المتهمين، أو التحقيق والبت في شكاوى وأقوال المتهمين الذين تعرضوا للتعذيب في مواقع الاحتجاز. بالإضافة لمقاومة الدولة المصرية لأي جهود مستقلة هادفة لسد النقص التشريعي لتجريم التعذيب.
يتناول تقرير الحكومة التدابير التشريعية والقضائية والإدارية لمنع التعذيب، مبرزًا النصوص الدستورية و«الطفرة» التشريعية في هذا الصدد، والتي تؤكد جميعها، بحسب التقرير، على توافر الرقابة على مقار الاحتجاز والحبس، وضمان حقوق المحتجزين؛ إلا أن الواقع الفعلي يعكس سيطرة القطاعات الأمنية على تلك المؤسسات، الأمر الذي حوّل الدستور وضمانته في هذا السياق إلى مجرد حبر على ورق تتباهي به السلطات المصرية أمام المجتمع الدولي.
فاللجنة نفسها التي قدمت إليها الحكومة هذا التقرير أقرت في السابق بأن التعذيب في مصر سياسة دولة «وأنه يُمارس غالبًا لانتزاع اعتراف أو لمعاقبة المعارضين السياسيين وتهديدهم، ويحدث التعذيب في أقسام الشرطة والسجون ومرافق أمن الدولة ومرافق قوات الأمن المركزي».[4] الأمر الذي يوضح أن الأزمة الحقيقة لا تكمن في غياب التشريعات أو القوانين، وإنما تكمن في ثقافة الأجهزة الأمنية، والضوء الأخضر الممنوح لها من القيادة السياسية، خاصةً قطاعات الأمن الوطني، لارتكاب جريمة التعذيب دون خشية من التعرض لأدنى مساءلة. فرغم القصور التشريعي الواضح، إلا أن مصر لم تصدر قانونًا خاصًا قائمًا بذاته ضد التعذيب، وحينما اقترح حقوقي مشروعًا لمناهضة التعذيب بمشورة قضاة، تم إحالتهم للتحقيق على خلفية هذا المشروع.[5]
ورغم ادعاء تقرير الحكومة المصرية بأن المجلس القومي لحقوق الإنسان ولجنة حقوق الإنسان بالبرلمان قد أجرت زيارات مفاجئة للسجون؛ إلا أنه أغفل الإشارة لأن تلك الزيارات تتم بطلب مسبق وكثيرًا ما يتم رفضها، وحين تم السماح بها مُنع بعض أعضاء فريق الزيارة من الدخول. وأثناء تلك الزيارات، تُصور السجون على أنها أماكن فندقية؛ للرد على الانتقادات الدولية، خاصة التي وُجهت لمصر أثناء الاستعراض الدوري الشامل 2019.[6]
في سياق متصل، يُنكر تقرير الحكومة الممارسات الأمنية التعسفية داخل أماكن الاحتجاز، مكتفيًا بالإشارة إلى ما يقره قانون السجون، متجاهلًا الاعتراف بالواقع الفعلي لوضع السجون من غياب تام لرقابة النيابة العامة –التي تتستر بالأساس على جرائم التعذيب– وسوء المعاملة دون أدنى مراعاة للحدود الدنيا لمعاملة السجناء، وغياب الرعاية الطبية، مما أدى لارتفاع أعداد الوفيات داخل السجون، لتصل 400 حالة وفاة على مدار ٤ سنوات.[7] هذا إلى جانب التنكيل بالمحتجزين، ومنعهم من حقوقهم القانونية في المراسلات أو الزيارات، وحرمانهم من التريّض والكتب والاحتياجات الأساسية. وهي الممارسات التي دفعت خبراء أمميين في وقت سابق للقول بأن آلاف المحتجزين في مصر يعانون من انتهاكات جسيمة لحقوقهم الإنسانية، في ممارسة ثابتة ومتعمدة من جانب الحكومة المصرية؛ لإسكات المعارضة.[8]
وفيما يتعلق بتجريم أفعال التعذيب، تطرق تقرير الحكومة لمحاسبة ضباط في 4 قضايا تعود وقائعها لعام 2004/ 2005، مدعيًا أن وقائع التعذيب هي مجرد حالات فردية، تمت محاسبة القائمين عليها من المكلفين بإنفاذ القانون. وعندما تطرق التقرير للسنوات الـ 10 الماضية، في القسم الخاص بالتحقيق في ممارسات التعذيب؛ ذكر التقرير بعض المحاكمات التأديبية لضباط الشرطة بشأن إتيانهم ممارسات لم تصل حد التعذيب؛ وإدانات محدودة في جرائم التعذيب دون ذكر تفاصيل تلك المحاكمات، وهي الفترة التي تفشت فيها جريمة التعذيب وأضحت ظاهرة واسعة النطاق تمارسها الأجهزة الأمنية، خاصةً قطاع الأمن الوطني.
ورغم الإقرار بفتح النيابة العامة تحقيقات في بعض قضايا التعذيب، إلا أن لائحة الاتهام لم تتضمن تعريفًا واضحًا لارتكاب الضباط جريمة التعذيب. وفي نهاية الأمر، أسفرت التحقيقات عن البراءة أو أحكام مخففة لا تليق بحجم الجرم المرتكب بحق الضحايا. فقد برأت محكمة النقض الضباط المتورطين في مقتل المحامي كريم حمدي وآخرين داخل قسم شرطة المطرية، رغم ثبوت تعذيبه في تقرير الطب الشرعي.[9] واستبعدت المحكمة اتهامات التعذيب في واقعة تعذيب عفروتو حتى الموت داخل قسم شرطة المقطم.[10] هذا إلى جانب فشل النيابة في تحديد المتورطين في مقتل وتعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، بل وإغلاق القضية دون تحديد المتورطين في مقتله.
وفي تقرير الخارجية الأمريكية عن حالة حقوق الإنسان في مصر لعام 2020، ذكر التقرير أن التعذيب أسلوب شائع في أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز الأخرى في وزارة الداخلية، وأن الإفلات من العقاب يشكل ظاهرة خطيرة بين قوات الأمن.[11] الأمر نفسه سبق وأكدته لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة في تقريرها السنوي عام ٢٠١٧ بقولها «يتمتع مرتكبو التعذيب في مصر بشكل عام بالإفلات من العقاب»، موضحةً أن ما عزز هذا الإفلات هو «غياب سلطة تحقيق مستقلة لشكاوى التعذيب» و«الافتقار إلى المراقبة المستقلة والمنتظمة لأماكن الاحتجاز».
وفي سياق حالة الإنكار التي تعتمدها السلطات المصرية، أنكر التقرير استخدام ضباط الأمن الوطني جريمتي الإخفاء القسري والتعذيب داخل مقار الأمن الوطني، ومساهمة النيابة العامة والمحاكم بكافة أشكالها في التستر على تلك الجرائم؛ من خلال تغاضيها عن التحقيق في كافة البلاغات والشكاوى المقدمة من جانب أسر الضحايا، والتي تثبت القبض على الأشخاص وتعرضهم للاختفاء القسري والتعذيب قبل مثولهم أمام نيابة أمن الدولة بعدة شهور –وهي الممارسة التي أصبحت نمطًا منذ يوليو 2013 وحتى الآن. هذا بالإضافة إلى تغاضي النيابة عن عرض المحتجزين على الطب الشرعي لإثبات تعرضهم لاعتداءات بدنية في السجون، بل والتنكيل بهم وحبسهم واستمرار محاكمتهم وفق اعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب وأثناء الاختفاء القسري، والحكم عليهم بالإعدام والسجن المشدد لسنوات، بالإضافة إلى ترهيب أسر الضحايا المطالبين بفتح تحقيقات في جرائم التعذيب.[12]
كانت لجنة مناهضة التعذيب قد أقرت أيضًا في تقريرها أن «مسئولي الشرطة والمسئولين العسكريين ومسئولي الأمن الوطني وحراس السجون يمارسون التعذيب. وأن المدعين العموم والقضاة ومسئولي السجون يسهلون أيضًا التعذيب بتقاعسهم عن كبح ممارسات التعذيب والاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة، أو عن اتخاذ إجراء بشأن الشكاوى».[13] كما أشار تقرير الخارجية الأمريكية لحالة حقوق الإنسان في مصر إلى أن السلطات المصرية اعتمدت نمط الإخفاء القسري بطريقة متزايدة لترهيب منتقديها؛[14] وهو ما يعكس كذب ادعاء الحكومة المصرية في تقريرها بحق ضحايا التعذيب في تقديم الشكاوى إلى السلطات المختصة.
إن أولى خطوات مكافحة التعذيب في مصر يبدأ باعتراف الدولة بممارسة التعذيب بشكل منهجي، والتحقيق في كافة الشكاوى المقدمة ضد المسئولين عن إنفاذ القانون، بل والتحقيق مع وكلاء النائب العام والقضاة بسبب تسترهم على تلك الجريمة، التي لا تسقط بالتقادم وفقًا للدستور الذي تستشهد به الدولة.
إن جريمة التعذيب في مصر أكبر بكثير من أن تطمسها تقارير حكومية تستشهد بالدستور والقوانين، في دولة يُنتهك فيها الدستور بشكل يومي، ولا تقترب قوانينها لأدنى القواعد العالمية لاحترام حقوق الإنسان. فالمشكلة الحقيقية تكمن في غياب الإرادة السياسية لإنهاء جريمة التعذيب؛ لكونه وسيلة أساسية للحكم في مصر.
[1] تقرير مصر الدوري المجمع، الخامس والسادس والسابع والثامن، للجنة مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، على:
https://tbinternet.ohchr.org/_layouts/15/treatybodyexternal/Download.aspx?symbolno=CAT%2fC%2fEGY%2f5&Lang=en
[2] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 32 دولة تكسر حاجز الصمت وتدين انتهاكات مصر لحقوق الإنسان أمام الأمم المتحدة، مارس 12، 2020، متاح على؛
https://cihrs.org/states-break-silence-to-condemn-egypts-abuses-at-un-rights-body/
[3] المفوضية السامية لحقوق الإنسان، خبراء الأمم المتّحدة يستنكرون إعدام 9 رجال على أساس “اعترافات انتُزِعَت منهم تحت التعذيب”، فبراير 2019، متاح على؛
https://www.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=24204&LangID=A
[4] تقرير لجنة مناهضة العنف والتعذيب، الدورة الثامنة والخمسون، ص 17 متاح على
https://tbinternet.ohchr.org/_layouts/15/treatybodyexternal/Download.aspx?symbolno=A%2f72%2f44&Lang=en
[5] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، التعذيب في مصر سياسة دولة، أكتوبر 29، 2019، متاح على؛ t.ly/h0kq
[6] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، كسر الصمت | القمع غير المسبوق في مصر يخضع للمراجعة في الأمم المتحدة، نوفمبر 13، 2019، على؛ bit.ly/3jihmrw
[7] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، التعذيب في مصر سياسة دولة، أكتوبر 29، 2019، مرجع سابق
[8] المفوضية السامية لحقوق الإنسان، خبراء أمميون ينددون بظروف سجن مرسي «الوحشية» ويحذرون: آلاف السجناء الآخرين في خطر شديد، متاح على؛
https://www.ohchr.org/AR/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=25270&LangID=E&fbclid=IwAR2Ip1mh08mnIUPz4o4qZmTGmOICrbpzBKVLW-wEKA253Xe1x0eXlYHLhqg
[9] منظمة العفو الدولية، وفيات المعتقلين المتكررة تشير إلى تفشي الانتهاكات في قسم شرطة المطرية بالقاهرة، متاح على
https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2015/03/egypt-spate-of-detainee-deaths-points-to-rampant-abuse-at-cairo-s-mattareya-police-station/
[10] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في واقعة تعذيب شاب حتى الموت في قسم المقطم: أهالي المنطقة يدفعون ثمن المساءلة الجنائية للشرطة، فبراير 18، 2018، متاح على؛ bit.ly/2XvU0XK
[11] تقرير الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان في مصر لعام 2020، https://eg.usembassy.gov/wp-content/uploads/sites/156/EGYPT-HRR-2020AR.pdf
[12] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مداهمات ليلية وحملات قبض وإخفاء لأفراد من أسرته بعد شكوى الحقوقي محمد سلطان تعرضه للتعذيب، يونيو 25، متاح على؛ t.ly/prG3
[13] تقرير لجنة مناهضة العنف والتعذيب، الدورة الثامنة والخمسون، مرجع سابق
[14] تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في مصر لعام 2020، مرجع سابق
Share this Post