كمال جندوبي
ناشط حقوقي في تونس ورئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. شغل منصب وزير مكلّف بحقوق الإنسان والعلاقات مع المجتمع المدني والهيئات الدستورية من فبراير 2015 إلى أغسطس 2016.أثارت الذكرى العاشرة للثورة في تونس تضاربًا في المشاعر. في حالتنا هنا، ونحن نحتفل لما شكّل وقتها صفحة مجيدة في تاريخ بلدنا؛ ثورة 2010 – 2011، تنوّع الوصف ليكون أكثر قتامة من الآخر، ما بين إحباط وخيبة أمل ويأس. فالذكرى صارت حفل رثاء أقرب للجنازة وليس عيد ميلاد. ويرجع ذلك لأن الكثيرين – وهم على حق في بعض الأحيان – لا يرون في السنوات العشر الأخيرة سوى الفوضى والفشل والدمار والفساد والعنف، ناسين –أو متناسين– العامل الأساسي في بزوغ الثورة، والمتمثل في القوة غير العادية لشعب، بكامل شبابه ونسائه، قرّر انتزاع حريته. فقد انطلقت من أعماق تونس الداخلية، حيث ما يسمّى بالأغلبية الصامتة –بمعنى آخر الخاضعة واللامبالية– انتفاضة محتدمة وغير متوقعة، مهّدت الطريق، بشكل لم يكن من الممكن تصوّره حتى ذلك الحين، للإطاحة بدكتاتورية صلبة تتمتّع بدعم خارجي قوي.
لا يتذكر المتشائمون من هذا الحدث الثوري، الذي أشعل حلقة من الانتفاضات في العالم العربي، سوى المؤامرة المزعومة التي دبّرتها قوى الشر في الداخل –الإسلاميون– ومن الخارج –الإمبرياليون من جميع الأطياف– زاعمين أن الوضع كان أفضل في السّابق، متظاهرين بأن الشّر لم يكن بيننا أولًا (أطروحة استيراد الإسلام السياسي والإرهاب). وبرؤيتهم الأنانية لتونس دون اكتراث لضجيج المنطقة والعالم، يترك قادتنا المجال فارغًا، سواء بداعي المصلحة أو الحسابات، للجهات الخارجية المصمّمة على التأثير على مسار الأحداث؛ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتركيا وممالك النفط الخليجية.
ورغم أن لفظة الشعب تبدو منتهية الصلاحية لأنها استخدمت أكثر من اللازم لإضفاء الشرعية على السلطة القائمة، وتشارك اليوم في المفردات الصاخبة للشعبوية من جميع الأنواع، إلّا أنّها تأخذ معناها الكامل في لحظات التمرّد والأزمات، كما هو الحال اليوم، حيث يسود وضع مرتبك وغير مستقر.
الشعب، كبش فداء مناسب
في عيون أولئك الذين يزعمون أنهم يحكموننا، سواء كانوا في السلطة أم خارجها، فإن الشعب التونسي «أقل من لا شيء» أو في طريقه لأن يصبح كذلك؛ لسبب وحيد وهو أنه لا يقبل الخضوع لمصيره من منطلق «التغيير الضروري». وفي نظرهم، شعب البرويطة –في إشارة إلى عربة محمد البوعزيزي– متواكل وغير ناضج إجمالًا، يرغب فقط أن يعتني به رئيس يمثّل المنقذ أو الملاذ. وانطلاقًا من هذه الغطرسة، فإنّ محاكمة النوايا تغدو جيّدة ما دمنا نرفض إجراء تقييمنا الشخصي.
هذا الشعب متهّم بالجحود لأنّه أوصل «حركة النهضة» للسلطة رغم عدم مشاركة أنصارها وقياداتها في الثورة، إذ كانوا متشككين وبشكل ما حذرين. علاوة أنه، وكما يشير الأستاذ عياض بن عاشور: «شعب الانتخابات ليس شعب الثورة».
هذا الشعب الذي يُزعم أنّه متقلّب؛ لانتخابه في 2014 رئيسًا من الفترة البورقيبية يبلغ من العمر 89 عامًا على أساس برنامج انتخابي يلتزم بإعادة التوازن في المجال السياسي واسترجاع هيبة الدولة، ولكن سرعان ما تمّ نسيانه لصالح التحالف مع النهضة، وبعد 5 سنوات لم يسفر عنها شيء باسم التوافق الذي تمّ اعتباره ضروريًا، تسبب في الفاجعة الانتخابية لـ 2019.
هذا الشعب الذي يعتبرونه مصابًا بالفصام لأنه وضع على رأس الدولة في 2019 رئيسًا «يتحدّث كالكتب» يعتمد على نضال خطابي، يسيء للدولة من خلال معارضته اللفظية ليخفي بشكل سيء عجزه. وفي الوقت ذاته جعل من البرلمان وكرًا للطموحات الشخصية وأحيانا الإجرامية، عبر انتخاب مجموعة من القوى المحافظة والمتطرّفة تحت قيادة حزب النهضة، متمتّعين بالحصانة البرلمانية التي تمنحهم حالة إفلاتٍ شبه كاملٍ من العقاب.
في هذا السياق يغيب الحديث بما فيه الكفاية عن المواطنين. ولا نتحدثّ قطّ عن الجمهورية.
وفي مواجهة هذه الوقاحة، من الواجب إعادة التأكيد أن ما عاشه التونسيون خلال السنوات العشر الماضية هو في الواقع ممارسة فعّالة للمواطنة ومحاولة لإعادة الروح للجمهورية. من الطبيعي الشعور بالأسف للأخطاء والفرص الضائعة؛ فكيف لا نرى انحراف هذا المسار الديمقراطي الأساسي من قبل القوى الرجعية التي لم تحمل الثورة في قلوبها قط؟
إذن على من يقع اللوم؟ على الشعب لأنه صوّت لها! أم على الزعماء لتلاعبهم به، وخيانتهم له بقول أخر!
في مصادر الانسداد
بالتأكيد، هناك أسباب متعددة أدت إلى الوضع الذي تعاني منه البلاد اليوم: اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، وصحية. ولكني سأقتصر هنا على مناقشة العوامل السياسية الرئيسية.
بادئ ذي بدء، فشل الإسلام السياسي والمأزق الذي أفضت إليه استراتيجية إدماجه في السلطة. إذ تمّ تطوير هذه الاستراتيجية على أساس عدم عودة الديكتاتورية بعد انتخابات 2011، من قبل الترويكا –النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل– ثم تمّ تعزيز هذه الاستراتيجية، بمساعدة الضغط الخارجي، من خلال تحالف الغنوشي/الباجي وفقًا للقول المأثور للأخير: «النداء والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان بإذن الله، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله»، معتبرًا أنه كان من الأفضل أن تكون حركة النهضة في الحكومة «لتحييدها»، وليس في المعارضة لعدم المخاطرة بزعزعة استقرار البلاد وتغذية الإرهاب. هذه الحجّة استخدمتها حركة النهضة أيضًا بإعلانها أنها الحصن الوحيد من أعمال الجماعات الإسلامية العنيفة.
ويتضمّن الموقف الواجب تبنّيه حيال الإسلام السياسي خيارًا استراتيجيًا أساسيًا، بين استئصاله مع ما يتضمنّه هذا من عنف وحرمان من الحريات الفردية والجماعية وخطر على السلم والاستقرار، وبين الإدماج السلمي في المشهد السياسي في المقابل.
لقد رأينا النتيجة التي أفضت إليها سياسة بن علي، إذ لم يتمكّن أبدًا من القضاء على الإسلام السياسي، بل وقبل كل شيء، تسبب في شرعنة الإسلام السياسي الذي تمكّن من الظهور مجددًا، بعد 20عامًا، متوجًا بمكانة الضحية، ومكتسحًا لمختلف الانتخابات مع تآكل تدريجي لناخبيه. وجرّبنا كذلك خيار إشراك الإسلاميين في السلطة بدعوى حقهم في الوجود بالطريقة نفسها التي استخدمناها بالأمس، عندما ندّدنا بالقمع الوحشي الذي استهدفهم. لكن التجربة أظهرت القوة الهائلة لازدواجيتهم. فحزب النهضة لديه القدرة الكاملة على عرقلة الدولة. هذا بالإضافة إلى ميل النهضة لحماية نفسها بكل الوسائل بما في ذلك غير المشروعة منها كالتنظيم السري. والأسوأ من ذلك، الوسائل الضارّة بعملية الانتقال الديمقراطي. فقد ثبت تغلغل أنصارها في مؤسسات الدولة باسم الحق في التعويض، كما ثبت استحواذهم على القطاعات الرئيسية مثل قطاع العدالة. وهي وسائل ضارّة لكون الاستحواذ يهدف في المقام الأول إلى إضعاف الدولة، والسيطرة على المجتمع بشكل أفضل عبر المساجد والشبكات الموازية على وجه الخصوص. إذ يسعى حزب النهضة، من خلال الرغبة في الهيمنة المنهجية على الأجهزة الرئيسية في الدولة (مجلس نواب الشعب والحكومة ومؤسسات العدالة والشرطة) إلى إخضاعها لاستراتيجيته الوحيدة، البقاء في السلطة بأي ثمن.
تعزّزت مشاكسة الإسلام السياسي، خاصّة مع ظهور ائتلاف الكرامة، هذا الائتلاف الذي يجسّد الإسلام السياسي الراديكالي، يضم مجموعة من بروتو الفاشيين العازمين على عرقلة عملية علمنة البلاد وتقويض التقدّم الديمقراطي الذي قبلت به حركة النهضة طوعًا أو كرهًا. وفي سبيل هذا الهدف، يحشد ائتلاف الكرامة كل موارد الثورة المضادة؛ بداية من الدفاع عن نظام أخلاقي رجعي، خاصةً على حساب حقوق المرأة، إلى تطوير خطاب هوياتي عنيف، وإعادة إحياء الدور السياسي للمساجد والمدارس القرآنية، ومهاجمة الاتحاد العام التونسي للشغل في تماهٍ تام مع الأعمال المشينة لروابط حماية الثورة التي تم حلّها في 2014. بالإضافة لخطاب عدواني يلقى صداه في دوائر الشباب والأحياء الشعبية والمحافظة.
إنّ غنيمة الإسلام السياسي من خلال تحولاته وتكيّفاته المختلفة لا تبشّر بالخير لمستقبل الديمقراطية التونسية، وخاصة بعدما تجاهل–إلى حد التدمير– آمال الكرامة والحريّة والتشغيل التي طالب بها المتظاهرون؛ والتي كان من المفترض أن تكون نتيجتها الطبيعية نظامًا ديمقراطيًا عادلًا وتعدديًا وتشاركيًا. خاصّة أنه في الماضي، كان لقمع الإسلاميين آثار سلبية خطيرة على هذا التّوق للديمقراطية؛ فقد برّرت الدولة وجهازها الأيديولوجي ممارستها الاستبدادية والعنيفة بالحاجة إلى تحييد «قوى الشر». وباستخدام الخطاب القائم على الدين والشريعة الإسلامية نفسه، فإن استغلال النظام للدين في ذاك الوقت لم يكن يختلف عن استغلاله من قبل خصومه.
في المقابل، لا يزال بديل آخر مطروحًا يتعيّن استكشافه، عبر الاستعانة بالقواعد الصارمة وغير التمييزية التي تكفّلها دولة القانون، والسعي لنظام ديمقراطي وتعدّدي مفتوح لجميع التونسيين والتونسيات يكفل التعايش بسلام مع الجهات الفاعلة المحافظة اجتماعيًا في البلاد، ولكن بشرط الوفاء بالشروط الديمقراطية الأساسية ونبذ المناورات الهادفة لحصار الدولة. ومن الضروري الاستمرار في الاعتقاد (والإرادة) أن هذا النهج لا يزال ممكنًا في تونس.
فشلت خطة استعادة هيبة الدولة في نسختها البورقيبية التي رغب الباجي قائد السبسي و«القوى الحداثية والوسطية» تجسيدها. في الواقع، لم يكن هناك أي إرادة للإصلاح منذ عام 2011. إذ بصرف النظر عن الإصلاحات التي تمليها المؤسسات المالية الدولية، لم يتم تنفيذ أي إصلاح ضريبي كبير، أو أي استراتيجية استثمار، أو حتى إعدادها. لقد اكتفت جميع الحكومات بإدارة الموجود، زاعمين أنه من الممكن خلق «شيء جديد باستعمال القديم»،ملتجئين في هذا الصدد الى كفاءات التكنوقراط الذين خدموا الديكتاتورية. ولن يتغيّر هذا الوضع بتأجيج الحزب الدستوري الحرّ والسيدة عبير موسي الحنين للنظام القديم؛ إذ أن اتباع السياسات نفسها سيسفر عن الآثار ذاتها؛ حالة من المعاناة واليأس الاجتماعي الشديد بسبب التفاوتات الاقتصادية والبطالة التي تؤثر بشكل خاص على الشباب والنساء وسكّان الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية.
ويتلخّص برنامج الحزب الحر الدستوري، الناتج جزئيًا عن تفكك صفوف ما بعد بورقيبة –والتي اجتمعت جزئيًا من 2014 إلى 2019 داخل نداء تونس– بشكل حصري تقريبًا في هدف واحد؛ القضاء على الإخوان المسلمين. وتتنبأ بعض استطلاعات الرأي بالفوز الساحق للحزب حال إجراء انتخابات تشريعية مبكرة. ويتصدر الحزب أكثر من أي وقت مضى موقعه كبديل للنظام «المشوّه» لما بعد الثورة، وخاصّة باعتباره الخصم القوي الوحيد للإسلاميين، مساهمًا في استقطاب أكبر للحياة السياسية. إنّه نوع من العودة لنقطة البداية قبل عام 2011.
في النهاية، ورغم المجهود الهائل للتعليم وعدد لا يحصى من النضالات والتضحيات، هُزمت الأفكار الحداثية والتقدمية –انتخابيًا على الأقل– وبقيت منحصرة في دوائر ضيّقة تواجه صعوبات في إقناع الناخبين. فغالبًا ما تنجح الأفكار والقيم التي تحملها (الحرية، والكرامة، والعدالة، والمساواة) في تعبئة القوى الحية للمجتمع بصورة دورية عندما يتعلق الأمر بمعارضة الانتهاكات الجسيمة للحريات النقابية أو لمكاسب النساء، لكنها في المقابل تفتقر بشدّة لديناميكية سياسية قادرة على إيصالها للسلطة من خلال صناديق الاقتراع.
«أين ديمقراطيتنا؟» يستنكر البعض، معربين عن استيائهم، وأحيانًا خيبة أملهم وغضبهم. يقفون- حسب الظرف- خلف شخص ما اليوم وغدًا خلف آخر، مقسّمون إلى الأبد، قابعون تحت رحمة الوضع وتوازن القوى، يتأرجحون بين ردود الفعل الآنية و/أو الواجب في محاولات قصيرة الآجل. لقد ظل الديمقراطيون غير قادرين على «الوجود لأنفسهم» وتقديم مشروع سياسي يحتضن المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي رفعها المتظاهرون في 2010 و2011. وفشلوا حتى الآن في إنتاج خطاب في مواجهة الخداع اللفظي للشعبويين من جميع الأنواع، والإسلاميين والعلمانيين على حد سواء.
لقد استبطن البعض هذه الاستقالة السياسية والأيديولوجية لدرجة أنهم لا يرون خيارًا ممكنًا سوى إلا بين معسكري «الإسلام السياسي» المتمثل في حزب النهضة من جهة، و«الدستوريين» ممثلين في الحزب الحر الدستوري. هم مهزومون حتى قبل خوض المعركة، يرون أنفسهم موجودين فقط من خلال التعامل مع أحد هذين القطبين. وقد ذهب جزء مما يسمّى بالحركة التقدمية والحداثية، في كرهه اللا متناهي للإسلام السياسي إلى الدعوة إلى الاصطفاف وراء عبير موسي، مستعدًا للتخلي عن الديمقراطية بدعوى التخلص من «أعداء الديمقراطية!». إنّها نسخة جديدة لاصطفاف البعض مع «بن علي» خلال الفترة بين 1987-2010.
إنّ الكرامة ومحاربة الظلم واللامساواة والبطالة هي شعارات لا تزال محتفظة بقدرتها على تعبئة «الشعب»، ومطالب يجب أن يضاف إليها الآن ازدراء «حكم الأحزاب» الذي يقوّض عملية التحوّل الديمقراطي. هذا الحكم الذي يحتجز عمل البرلمان كرهينة، وتهيمن عليه التحالفات العرضية –كما هو الحال اليوم مع النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة– ويحوّل مجلس نوّاب الشعب إلى هيئة طفيليّة في أيدي عدد قليل من رؤساء الأحزاب، يشوّه سلوكهم غير الأخلاقي وغير القانوني سمعة الهيئة التشريعية لدرجة تثير اشمئزاز التونسيين من الديمقراطية التمثيلية. يُضاف إلى ذلك تجزئة السلطة (البعض يتحدث عن الفراغ أو الكاريكاتير) التّي قوضها الصراع الثلاثي بين الرئاسات الثلاثة (رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، رئاسة مجلس نوّاب الشعب) ما يسيء بشكل خطير لمصداقية وفعّالية الدولة في جميع مجالات عملها (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الدبلوماسية).
المحافظة على الثقة وزرع الأمل
يجب على التونسيين الاستمرار في الاعتزاز الحقيقي بفترة 2010-2011، وأن يحفظوا في ذاكرتهم ذلك الشعار الرائع المنقوش على جدران المدينة: «أيها التونسيون، ابقوا صامدين، العالم فخور بكم». ورغم أن الوقت لم يعد مناسبًا للحماس، إلّا أنّ هذا الفخر يجب أن يبقى كنوع من الترياق ضد الإحباط.
ووفقًا للقول المأثور لنصف الكوب الفارغ والنصف الممتلئ، يجب التنويه أن مكتسبات عام 2011 تظل محمية جزئيًا، بدايةً بحريّة التعبير. وبالطبع، لهذه الحرية آثار ضارة لا يمكن إنكارها تتمثل في قبضة قوى المال على المشهد الإعلامي وتسليمه إلى الرداءة والقدح والمعلومات المغلوطة. وإن كان ليس من النادر وجود تبعات قضائية وقمعية ضد حرية الرأي، فهذا لا يمنع أنّ الصحف والصحفيين والناشطين الشباب والمدونين والفنانين والنسويات والفاعلين في المجتمع المدني والنقابيين والعاطلين ونساء ورجال الثقافة والقوى السياسية يقاتلون ويقاومون للدفاع عن هذا المكسب الثمين. إذ لا يبدو التونسيين وخاصّة الشباب على استعداد للتضحية به.
وتعدّ القدرة على اختيار المسئولين عن طريق الاقتراع الحر العام والمباشر مكسبًا أخرًا مهمًا. لقد جرت عمليات الاقتراع المختلفة التي تمّت منذ عام 2011 دون وقوع حوادث كبيرة، وتم القبول بنتائجها. هذه التداولات السلمية تستحق إلقاء الضوء، وخاصة بالنظر للعدد المتزايد من الانتخابات في المنطقة، وحتى في العالم، التي تؤدي إلى نزاعات عنيفة، لقد دلت المشاركة القوية للشباب في انتخابات عام 2019، على عكس الانتخابات السابقة لعامي 2011 و2014، على الرغبة الكامنة لاختيار المسئولين حتى ولو كانت هذه المشاركة مدفوعة بـنوع من «القطع» مع المنظومة السياسية.
يمكننا، بل ويجب علينا التساؤل عن الديمقراطية التمثيلية، وحدودها وانحرافاتها، وعن الوسائل التي تجعلها أكثر دماجًا وفعالية، وأقرب إلى الناس وخدمتهم وهو أمر غير خاص بتونس. ولكن بين هذا التساؤل وبين تقويض كل التجربة بمحاسنها ومساوئها لا توجد سوى خطوة واحدة لا يمكن إلا للعدمي تخطيها بكل سرور.
إن حقيقة تماسك البلاد وعدم انزلاقها للفوضى رغم شدّة أزماتها والضغوط التي تتعرّض لها هو مصدر ارتياح وفخر. فهناك نوع من الصمود، وعناد فريد لتونس هذه «الناجية الفريدة من الربيع العربي».
يعزو البعض ذلك لسمات الاعتدال لدى التونسيين وميلهم للحوار والتوافق. هذه الخصائص والعادات التي صاغها تاريخ طويل لعبت فيه الحركة الإصلاحية التونسية وكذلك النقابية أيضًا دورًا حاسمًا. هذه الرؤية التي تقدّم أحيانًا في صورة مثالية، بالطبع، جعلت التغلب على الأزمات الخطيرة وتجنب الأسوأ في كل مرة ممكنًا. ولكن على حساب التأجيل المتواصل للحسم في المجالات الرئيسية، ممّا يعطي شعورًا ظاهريًا بالاطمئنان بالحفاظ على التوازنات غير المستقرة، بينما يؤدي هذا فقط إلى استمرار الظلم وعدم المساواة التي تولّد التوترات والصراعات. وهنا تكمن الصعوبة التي لا يمكن التغلب عليها إلا بالشجاعة السياسية.
هذا بالإضافة إلى موضوع آخر مثير للقلق وكذلك للارتياح؛ الدولة لم تنهار. لا يوجد فراغ في الدولة، بل دولة مستضعفة، يستنزفها، ويضغط عليها أولئك الذين يريدون سقوطها. إلاّ أنها تبقى موجودة رغم أنف خصومها الانتهازيين. إذ تستمر الإدارة والبنوك والشركات والمدارس ومكاتب البريد والنقل في العمل رغم صعوبة ذلك. وكم عمقّت الأزمة الصحية الاختلالات السابقة. كما تواصل مؤسّسة الجيش المخلصة، مندفعة بحسّ جمهوري ثمين، التمتع بتقدير واحترام غالبية السكان، بينما تبقى العلاقات مع جهاز العدالة وقوات الأمن الداخلي (الشرطة والحرس) أكثر تعقيدًا نظرًا لماضيهم القمعي وميلهم القوي لإعادة إنتاج عادات الماضي السيئة، إلا أن تضحياتهم في محاربة الإرهاب تبقى حقيقيّة.
عندما نستأنف العمل لبناء دولة نزيهة اجتماعية وديمقراطية، فإن فخرنا وكرامتنا سيستعيدان حيويتهما. هذا سيتمّ بشرط صريح، وهو إضافة المساواة إلى شعار جمهوريتنا؛ لأنه لا وجود لديمقراطية جديرة بهذا الاسم دون مراعاة مطالب النساء وكل المهمشين بالمساواة.
هو طريق يتردّد فيه صدى عبارة فرحات حشاد مرة أخرى: «أحبك يا شعب!»
المصدر: نشرت باللغة الفرنسية على Leaders
Share this Post