حرب سياسية مدنية…”ورقة موقف”

In البرنامج الدولي لحماية حقوق الإنسان by CIHRS

“في بيانها الأخير للرأي العام، اعتبرت نقابة الصحفيين أن الأحكام بالسجن التي صدرت بالجملة لأربعة رؤساء تحرير، هى بمثابة “إعلان حرب على حرية التعبير”، وهو تعبير بليغ يعبر عن مدى الشعور بالخطر، غير أن واقع الحال يدلنا على أن “الحرب” تجري بالفعل منذ أكثر من عام ونصف، وأن نطاقها أوسع، وأن الحكم الأخير ليس مجرد إعلانا بالحرب، بل إحدى جولاتها، فقد سبقتها جولة جرى خلالها إغلاق منظمتين لحقوق الإنسان، وفي وجولة ثانية جرى قمع حركة القضاة، وفي جولة ثالثة جرى سحق حركة التظاهر، و….. و…… ، أما إعلان الحرب فربما تشكل التعديلات الدستورية التجسيد الفعلي له”.
اذ تشكل التعديلات الدستورية التي جرى اعتمادها من خلال الاستفتاء العام في 26 مارس 2007، ذروة الهجوم المضاد السياسي والأمني والإعلامي والتشريعي على الحراك السياسي المحدود الذي جرى في مصر خلال عامي 2004- 2005، بعد أن اضطر النظام الحاكم حينذاك للتراجع المؤقت عن الرفض العنيد للقيام بإصلاح سياسي، وذلك تحت الضغوط الأمريكية والأوروبية المطالبة بالإصلاح في إطار استراتيجيتهم لمكافحة الإرهاب. لم ينطو ذلك التراجع المؤقت على تقديم أية تنازلات ذات طابع مؤسسي أو تشريعي، واقتصر على القيام بمناورة سياسية واسعة النطاق، تستهدف بالأساس تليين الضغوط الدولية وتخفيفها.

مناورة سياسية
تفرعت المناورة السياسية في ثلاثة مسارات:
1- الإيحاء بأن النظام قد استوعب الرسالة وقرر الشروع بالفعل في الإصلاح، وتمثل ذلك في المبادرة بتعديل المادة 76 من الدستور، وتنظيم مؤتمر الإسكندرية للإصلاح، والسماح له بإصدار وثيقة جيدة، مع التلويح بأن النظام سيتبناها داخليا، وإقليميا أمام القمة العربية. وقد نجحت هذه المناورة بالفعل في تخفيف الضغوط الخارجية، وفي شق صفوف بعض المطالبين في الداخل بالإصلاح السياسي، وتخفيف حدة حماس واندفاع البعض الآخر، وبالتالي تخفيف الضغط المحلي، الذي هو محدود أصلا، برغم أنه لم يحدث تغييرا جوهريا في عملية اختيار/انتخاب رئيس الجمهورية، التي أخذت شكل الانتخاب، ولكنها في الجوهر احتفظت بطابع الاستفتاء، مثلها في ذلك مثل دول عربية أخرى تطبق هذا النمط منذ عدة سنوات كتونس واليمن.
2- المسار الثاني هو استمرار القمع الأمني ولكن بشكل محسوب، بحيث لم يتم التصدي العنيف لكل مظاهر التحرك الجماعي السلمي، إلا في مناسبات سياسية ذات مغزى، مثل مناسبة الاستفتاء على المبادرة بتعديل المادة 76، أو مناسبة إعلان الرئيس مبارك اعتزامه ترشيح نفسه لدورة خامسة لرئاسة الجمهورية. كما كان القمع الأمني الفائق في مناسبات معينة، بمثابة اختبار عملي أيضا لمدى تماسك موقف المجتمع الدولي من قضية الإصلاح في مصر. وقد لوحظ أن القرار الأمني في اليوم التالي لهذه المناسبات -بمواصلة القمع العنيف أو الامتناع عنه أو تخفيفه- يرتبط بشكل ملموس لا لبس فيه بطبيعة رد الفعل الأمريكي والأوروبي على السلوك الأمني في اليوم السابق.
3- المسار الثالث هو استخدام فزّاعة الإسلاميين، لشق صفوف المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج. وقد بدا ذلك أكثر سطوعا في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2005. ومع تصاعد حصيلة الإخوان المسلمين من المقاعد البرلمانية في المرحلة الأولى، والجولة الأولى من المرحلة الثانية، وبداية تعمق الشعور بالقلق لدى بعض المطالبين بالإصلاح في الداخل والخارج، بدأت القبضة الأمنية تمارس دورها دون حساب، حتى بلغت ذروتها في المرحلة الثالثة، دون احتجاج جدي من المجتمع الدولي.
إذا كان عام 2005 هو عام المناورة واحتواء الخصوم وشق صفوفهم في الداخل والخارج، فإن عام 2006 كان عام القمع المكشوف بامتياز، لإخماد صوت الحراك السياسي، بعد أن تم تحييد المجتمع الدولي، و”التحرير الوطني” للحراك السياسي الداخلي من المؤثرات الخارجية.
بدأ ذلك العام مبكرا، فقد بدأ في ديسمبر 2005، بمهزلة الجولة الثانية من المرحلة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية، وإعلان النائب العام حفظ التحقيق في وقائع التحرش الجنسي بالنساء المعارضات لاستفتاء 25 مايو 2005، وبدء تحريك الدعاوى القضائية ضد رموز القضاة المطالبين بالإصلاح، والحكم على أيمن نور بالسجن. وأخيرا المذبحة البشعة للاجئين السودانيين في قلب أحد أهم ميادين القاهرة الكبرى، والتي كانت في جوهرها رسالة للمصريين، حملتها دماء وجثث السودانيين، بأن زمن التسامح الأمني مع الحراك السلمي قد ولى.
وقد كان، فلم يسمح خلال عام 2006 بأي تحرك جماعي في الشارع، بل جرى استخدام قانون الطوارئ –لأول مرة منذ إعلان حالة الطوارئ قبل ربع قرن- بشكل جماعي ضد مئات المتظاهرين الذين جرى القبض عليهم لمجرد تضامنهم مع نادي القضاة والقضاة المنددين بتزوير الانتخابات العامة.
خلال هذا العام مارست القبضة الأمنية دورها “متحررة” من أي قيد دولي، فقبل أن يبدأ هذا العام كان الإخوان المسلمون في مصر قد حصدوا 20% من مقاعد البرلمان، وفي الشهر التالي حصد أشقاؤهم في “حماس” الأغلبية في فلسطين، وشكلوا الحكومة، لتتوقف المطالب الدولية بالإصلاح، التي كانت قد بدأت فعليا في التراجع تدريجيا منذ منتصف 2005.
عام 2007 هو عام القمع بالدستور، بعد أن تم تعبيد الطريق دوليا وسياسيا وأمنيا؛ أي “تحرير” مصر من الاهتمام الدولي بالإصلاح، و”تحرير” الشارع المصري من الحراك السياسي. ولكن قبل أن ينتهي ذلك العام، ستكون حملة الهجوم التشريعي قد بدأت وستتواصل خلال عام 2008، والتي تستهدف ترجمة عدد من أسوأ التعديلات الدستورية إلى تشريعات جديدة وتعديلات على قوانين سارية، على رأسها بالطبع قانون مكافحة الإرهاب، ولكن تطور الأحداث ربما يدفع إلى المقدمة بتعديلات قانوني الجمعيات الأهلية والصحافة، وغيرهما من القوانين، بما يكفل إضفاء مزيد من الحماية التشريعية على أعمال القمع السياسي والأمني والإداري، التي من المرجح أن تتواصل على نطاق أكثر اتساعا، ولكن ربما بقدر أقل من ضجيج الاحتجاج، بعد إرهاب الصحافة المستقلة ومنظمات حقوق الإنسان، التي جرى –لأول مرة في تاريخ مصر- إغلاق اثنين من أنشطها خلال أسابيع معدودة.
كيف ساهم الاصلاحيون في تعزيز النظام الحاكم ؟
عرف النظام الحاكم كيف يدير معركته بمهارة وكفاءة، لا تظهر إلا في معارك المصير، ولو كانت تدار قضايا التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمصر بمعشار هذه الكفاءة، لاختلف حال مصر تماما.
لم تلعب الأوهام بعقل النظام الحاكم، وتوصل منذ اللحظة الأولى إلى أن مركز الثقل في معركته ليس في شارع “عبد الخالق ثروت”، أو القاهرة أو مصر كلها، بل في واشنطن وباريس ولندن وروما وبرلين، وأيقن مبكرا أن خروجه سالما من هذا التحدي المصيري، سيتوقف على مدى قدرته على إقناع هذه العواصم بمراجعة موقفها من قضية الإصلاح، وعرف كيف يوظف التناقضات داخل كل عاصمة، وبين عاصمة وأخرى. وعرف كذلك فن “تأليف” المبادرات الديمقراطية وتسويقها دوليا، وتوظيف التطورات الإقليمية في العراق وفلسطين ولبنان وإيران لخدمة هذا الهدف، في الوقت نفسه كان سخيا ولحوحا في تقديم الخدمات الأمنية والاستراتيجية على كل مائدة دولية، جرى فيها طرح قضية الإصلاح السياسي، مثلما قالت عن حق مجلة “النيوزويك”.
كان النظام يتصرف بعقلية لاعب الشطرنج، أقدامه في القاهرة، ولكن عيونه تحيط برقعة العالم كله، يحرك الملك والوزير وبقية القطع الرئيسية في الساحة الدولية، ويكتفى “بالعساكر” لملاعبة الإصلاحيين، في شارع عبد الخالق ثروت، الذين كانوا وما زالوا يتدربون على لعب “السيجة”!.
واقع الأمر أن ذهنية قوى الإصلاح حاصرت نفسها بشارع عبد الخالق ثروت، قبل أن تحاصرها “عساكر” الأمن، ولم تسع جديا للتطلع لتحالف مدني عالمي، أو إقليمي، ولا حتى مصري، برغم أن كل الظروف كانت مهيئة لذلك، بل انشغل بعض رموزها بمساندة أبرز رموز الاستبداد في العالم العربي، من بشار إلى البشير مرورا بالشهيد صدام حسين!، وإعادة إنتاج الخطاب الأمني والإعلامي للحكومات العربية ضد منظمات المجتمع المدني. صدقت جماعات الإصلاح ما تعكسه صورتها في الفضائيات، بعد أن حققت بالفعل “انتصارات” إعلامية، ولكن ميدانيا انتهى الأمر بهزيمة سياسية ساحقة للإصلاحيين، قبل أن تكون هزيمة أمنية.
بينما كان النظام الحاكم يدقق في خطابه السياسي والإعلامي للحفاظ على تماسك النخبة الحاكمة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، فإن جماعات الإصلاح لعبت برأسها الانتصارات الإعلامية، وفشلت فشلا ذريعا في توسيع قاعدتها الاجتماعية، وفي اجتذاب الجماهير والفئات الاجتماعية التي استهدفتها بشعاراتها ومواقفها وتظاهراتها، بل على النقيض فقد ساهمت في توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم – مثلما قال د. محمد السيد سعيد، في مؤتمر نظمه مركز القاهرة لتقييم حركات التغيير في عام 2007- الذي خرج من صخب “معركة” التغيير أكثر قوة، بعد أن كسب –أو دفع الإصلاحيين إلى صفوفه- شرائح وفئات اجتماعية أصابها الذعر، إما بسبب شعارات تدفع نحو الفوضى والمجهول -أو نحو أهداف سياسية لم يستوعبها شعب ما زال يفرك عينيه من النعاس السياسي بعد غيبوبة نصف قرن، كشعارات العصيان المدني ومظاهرات المليون التي تسقط النظام في أمسية سعيدة!- أو بسبب الصعود السياسي المفاجئ للإخوان المسلمين، والمخاوف الذي أثارها ذلك التطور بالنسبة للأقباط وبعض أطراف قوى الإصلاح من بين العلمانيين واليساريين والليبراليين.
وفي حين عجز الإصلاحيون عن أن يقدموا أنفسهم للأطراف المحلية والدولية كبديل مقنع للنظام الحالي، فإن النظام الحاكم نجح في إقناع أطراف أساسية محلية ودولية بأنه الأقدر على تحقيق مصالحهم، أو على الأقل تجنيبهم الأضرار التي ستترتب على أي بديل آخر. ونجح في هذا السياق أن يحرر الميدان السياسي –بوسائل المناورة السياسية، والقمع الأمني وأخيرا بسجن أيمن نور- من أية بدائل أخرى حقيقية، باستثناء الإخوان المسلمين، حيث اكتشف مصلحة كبرى في وجودهم إلى جانبه، باعتبارهم البديل الوحيد/المخيف. وفي هذه الحالة، فإنه على الأرجح ليس هناك خيار؛ فإذا كان النظام الحاكم لم ينجح في أن يقنع الأطراف المحلية والدولية بأنه هو الحل، فإنه لا شك استطاع أن يقنعهم بأنه صمام أمن لا بديل آخر عنه.

اختلال توازن الاخوان
ساعد النظام على ذلك أن الإخوان المسلمين أيضا لم يكونوا على مستوى هذه اللحظة التاريخية، وعجزوا عن استخلاص الاستنتاجات المنطقية منها، بعد أن تركوا نشوة الانتصار البرلماني تلعب برءوسهم. كان الأمر يستوجب من الإخوان العمل على إنتاج خطاب وبرنامج سياسي جديد، يخاطب الهواجس العميقة لدى النخبة السياسية والمثقفة، حول مشروع الدولة الدينية وموقفهم من حرية الفكر والاعتقاد والإبداع الأدبي والفني، ومدى تمتع المواطنين المصريين غير المسلمين بحقوق المواطنة الكاملة. ولكنهم على النقيض ساعدوا بعدد من المواقف والتصريحات وردود الأفعال التي اتخذوها على تعميق هذه المخاوف وتأكيدها، حتى في أوساط قطاع من المثقفين الذين دافعوا دوما عن حق الإخوان المسلمين في الاعتراف السياسي بهم. ومن ناحية أخرى فإن الإخوان لم يطرحوا في أي لحظة على أحزاب وجماعات المعارضة السياسية موقع الشريك المتكافئ في إطار التحالف معهم، وتركوا لهم دور “الكومبارس”، تماما مثلما يطرح عليهم النظام الحاكم.
وهكذا فإن تمهيد الطريق نحو القمع بالدستور، لم يكن فقط وليد تراجع دولي وميكافيلية النظام الحاكم، وشراسة أجهزة الأمن، ولكن أطرافا أساسية في قوى الإصلاح لعبت دورا مكملا في تهيئة المناخ المناسب.
ويستلفت الانتباه في هذا السياق، أن أبرز من ساندوا سياسيا التعديلات الدستورية –من خارج النخبة الحاكمة- أو امتنعوا عن اتخاذ موقف نقدي جاد منها كانوا الأقباط وبعض العلمانيين والليبراليين واليساريين.
ولا تقتصر أهداف هذه العملية الدستورية والتشريعية الجارية على تصفية الحساب مع أطراف الحراك السياسي المحدود والخاطف الذي جرى خلال عامي 2004-2005، بل تستهدف بالأساس قطع الطريق على احتمال انبعاثه من جديد بأي صورة من الصور، خاصة في حالة حدوث متغيرات جديدة في المجتمع الدولي، تعود لتضع من جديد قضية إصلاح المجتمعات في العالم العربي على جدول الأعمال.
ويشدد من إلحاح تعزيز المرتكزات الدستورية والتشريعية والسياسية للنظام الحاكم الحالي، أنه يمر بمرحلة انتقالية، تعرف كل الأطراف متى تبدأ، ولكنها لا تعرف متى وكيف ستنتهي! بكل ما تتضمنه من احتمالات انتقال الصراع المكتوم داخل النخبة الحاكمة إلى العلن، أو الصراع المكشوف بين أطراف يجمع بينها الرغبة في إبقاء كل الأطراف المحلية الأخرى والدولية في مقاعد المتفرجين، وعلى رأسها الشعب المصري.
بميزان التاريخ، تعتبر التعديلات الدستورية الأخيرة أكبر نكسة دستورية في تاريخ مصر الحديث، أو على الأقل منذ انقلاب ثورة يوليو على دستور الحقبة الليبرالية، من خلال إعلاناتها الدستورية الأولى وصولا إلى دستورها الأول في 1956، ودفنها في هذا السياق مشروع دستور 1954، الذي قامت بإعداده لجنة شكلها مجلس قيادة ثورة يوليو نفسه.
فالتعديلات الدستورية التي تم اعتمادها في مارس الماضي تشكل انقلابا وعدوانا على التطور النسبي والمحدود الذي أتى به دستور السادات في 1971 -وخاصة في بابه الثالث المخصص للحقوق والحريات- وتقوم بدسترة الطابع البوليسي للدولة الذي تكرس منذ السنوات الأولى لنظام يوليو، ثم بالسريان المتواصل لحالة الطوارئ لعدة عقود، بما تمنحه هذه التعديلات من سلطات استثنائية مطلقة لأجهزة الأمن، ليس فقط على حساب الحريات العامة وحقوق الإنسان، بل بالانتقاص من مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، وإضفاء الحماية الدستورية على العدوان الفعلي عليهما في الواقع اليومي.
كما تهدر التعديلات ما بقى من دور هامشي للقضاء في الحد من استفحال ظاهرة تزوير الانتخابات العامة، لتفتح الباب على مصراعيه أمامها دون أي قيد، على النحو الذي رصدته مختلف الأطراف في أول انتخابات عامة جرت عقب هذه التعديلات، أي انتخابات “مجلس الشورى”.
كما أن التعديلات لم تتجاوب مع دعاوى المطالبين بتصحيح ما قام به الرئيس الراحل أنور السادات من اعتداء على دستور 71 في المادتين رقمي 2 و77، من خلال الصفقة “الدستورية” المريبة، التي جمعت في حزمة واحدة، بين تعديل يسمح بإطلاق حق الرئيس في تولي الحكم مدى الحياة، وبين تعديل يحول مبادئ الشريعة الإسلامية لتصير المصدر الرئيس للتشريع.

إعلان حرب على الإسلاميين وعلى الدولة المدنية أيضا..
لا شك أن تعديل المادة الخامسة من الدستور، وذلك لحظر الأحزاب ذات المرجعية الدينية، هو بمثابة إعلان حرب على الإسلاميين عامة، وعلى الإخوان المسلمين بشكل خاص، بصرف النظر عن أن الحزب الوطني الحاكم وأحزابا أخرى يمكن أن ينطبق عليها نظريا الحظر ذاته، وبصرف النظر أيضا عن أن منطوق المادة الثانية -القائل بإسلام الدولة، وإن شريعة ذلك الدين هى المصدر الرئيسي للتشريع- يلغي كل أثر لذلك التعديل، ويجعله نظريا لا يسري إلا على الأحزاب ذات المرجعية الدينية غير الإسلامية!.
استهدف هذا التعديل امتشاق أسلحة دستورية في إطار التنافس السياسي الرخيص بين الحزب الوطني الحاكم والإخوان المسلمين على احتكار توظيف الإسلام في السياسة، وعلى الجمهور ذاته، حتى لو كان إحدى ضحايا هذا التنافس هى المكانة الأخلاقية والروحية للإسلام، أو الأديان عموما، التي يجب أن تبقى بمنأى عن ميكافيليات التنافس السياسي.
وبرغم أن الأهداف المعلنة لهذا التعديل، والتعديل الآخر المرتبط به في المادة الأولى –الذي يلصق كلمة “المواطنة” بالدستور- هى إعلاء قيمة المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن الدين، فإن هذه التعديلات أدت وستؤدي في الممارسة لتحقيق أهداف، وتعزيز معطيات سياسية، منافية تماما للأهداف المعلنة، مثلها في ذلك مثل أغلبية التعديلات الدستورية.
فالتعديل الذي استهدف إغلاق الباب أمام تشكيل الإسلاميين لحزب سياسي، لا يغلق باب الحزب وحده، بل باب الاستيعاب لتيار سياسي ذي جذور قوية ومتشعبة في المجتمع، أي يغلق باب السياسة، ويفتح في الوقت نفسه الباب على مصراعيه مرة أخرى أمام القبضة الأمنية. وهو ما حدث بالفعل في الأشهر القليلة التالية لاعتماد التعديلات وسريانها. ولكن الباب الذي يغلق أمام الاستيعاب السياسي للإسلاميين، لا ينفتح من الناحية الأخرى أمام القبضة الأمنية وحدها، إنه ينفتح أيضا أمام تحول محتمل لقطاع من الإسلاميين نحو طريق العنف السياسي والإرهاب، طالما أن أبواب المشاركة السلمية الشرعية تغلق في وجوههم.
هذا التنافس السياسي الذي سيزداد تأججا والتهابا بين النظام الحاكم “وحزبه” والإخوان المسلمين –بالتوازي مع الضربات الأمنية- لا يحمل أية أخبار سعيدة للذين صدقوا وعود المواطنة ومدنية الدولة، والانفتاح الفكري المتجاوز للانغلاق الديني للإسلاميين.
ففي إطار هذا التنافس الرخيص –الذي سيزداد ضراوة بعد التعديلات والضربات الأمنية- على الأرض والجمهور أنفسهما، سيكون من المستحيل على النظام الحاكم وحزبه الإقدام على تبني أية مواقف أو سياسات أو ممارسات يمكن أن يصورها الإخوان المسلمون للرأي العام، باعتبارها دليلا على أن النظام الحاكم أقل إيمانا بالإسلام منهم. أبرز ضحايا هذا التنافس الميكافيلي الرخيص هى نفسها الأهداف “المخملية” الموعودة للتعديلات الدستورية، أي المواطنة ومدنية الدولة، لينضم بذلك الأقباط والعلمانيون واليساريون والليبراليون لطابور طويل من ضحايا هذه التعديلات، يتصدره حقوق الإنسان واستقلال القضاء.
لذلك لم تكن مصادفة أن تبادر مؤخرا الهيئة العامة للكتاب التابعة للحكومة بمصادرة مجلة “إبداع”، لأنها نشرت قصيدة قد يستخدمها الإخوان المسلمون للبرهنة على عدم احترام النظام وحزبه للإسلام! أو أن تقوم الحكومة –وليس الإخوان المسلمون- بالطعن على حكم قضائي يصدق على عودة مواطنين مسيحيين إلى دينهم بعد أن كانوا أسلموا! أو أن تتواطأ الحكومة على إجبار أطفال أقباط على الانتقال للإسلام، واعتبارهم راسبين في مادة الدين الإسلامي! أو افتعال قضايا أمنية وإعلامية وجنائية، يجري من خلالها البرهنة على أن النظام الحاكم وحزبه هو الحارس الأول للإسلام ضد مواطنين مسيحيين، أو مسلمين يتبنون وجهات نظر إسلامية أخرى بشأن دينهم، مثلما حدث مع “القرآنيين” الذين جرى تصنيفهم باعتبارهم خطرا على “أمن الدولة”!. أو أن تقوم الحكومة –وليس الإخوان المسلمين- بالطعن على حكم قضائي يسمح للبهائيين بذكر دينهم في البطاقة الشخصية، برغم أنه كان مسموحا لهم بذلك من قبل! في كل هذه الحالات لم يعترض بالطبع الإخوان المسلمون -بل ابتهجت مواقعهم على الإنترنت- فالحكومة تنفذ بنفسها برنامجهم، ولكنها في نفس الوقت تذبحهم على أنغام طبول “المواطنة” و”الدولة المدنية”!.
ليست هذه الممارسات هى أخطر الطعنات “للمواطنة” والمواطنين. إن ذبح المواطنة –التي تظل كلمة معلقة في الفراغ- يتجلى في أجلى صوره وقاحة، عندما ينص الدستور ذاته في تعديل المادة 179 على إباحة وحماية إهدار أبسط حقوق المواطن، وهو حقه في الأمان الشخصي، وعدم القبض عليه تعسفيا، وحرمة مسكنه وخصوصياته، وحقه في اللجوء لقاضيه الطبيعي.
إن التعديلات الدستورية ليست حربا على الإسلاميين وحدهم، بل على مبدأ المواطنة والمواطنين ذاتهم.
من الصعب التنبؤ بعمر هذه التعديلات، وكم تعيش، ولكن على الأرجح فإن عمرها وثيق الصلة بعمر النظام السياسي الراهن. وهى على عكس ما يعتقد الذين وضعوا فلسفتها، واستهدفوا من خلالها تعزيز ركائز استقرار النظام الحالي، فإنها ستساعد على بث المزيد من الفوضى وعوامل عدم الاستقرار في أركانه.
فلم يسبق أن استمر النظام السياسي ذاته، أو قواعد اللعبة السياسية نفسها، بعد انتهاء حرب أهلية، والتعديلات الدستورية ليست سوى إعلان بحرب أهلية، حتى لو ظلت “سياسية”.

Share this Post