على مدى أربعة أيام، استضافت مصر منتدى شباب العالم الرابع، لبحث قضايا وتحديات المستقبل واستعراض أبرز إنجازات ونجاحات الشباب حول العالم في مجالات مختلفة. وفي جلسته الختامية أمس الأول 17 ديسمبر، طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قادة دول العالم بالاستماع إلى الشباب ومنحهم فرصة التعبير عن أنفسهم بحرية واعطائهم مفاتيح القيادة لصناعة المستقبل. يأتي ذلك في الوقت الذي تصادر فيه السلطات المصرية أبسط حقوق الشباب المصري في التعبير الحر عن الرأي والمشاركة السياسية والانخراط في العمل العام بمختلف روافده الحزبية والنقابية والأهلية، وتلقي بمئات منهم في السجون لمجرد التخطيط والسعي نحو مستقبل أفضل، سواء من خلال التنظيم داخل مبادرات سياسية أو حقوقية أو المشاركة في حملات إعلامية أو ممارسة الحق في الاعتراض السلمي أو انتقاد سياسات الحكومة.
ففي هذا العام، بل وخلال الأشهر القليلة الماضية، ألقت السلطات المصرية القبض على أكثر من 4000 شاب مصري بتهمة ممارسة حقهم المشروع في التظاهر السلمي في سبتمبر الماضي (القضية 1338 لسنة 2019 حصر أمن دولة)، بينما يقبع عشرات الشباب في السجون على خلفية اتهامات تتعلق بإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة عليها، بينهم النشطاء عمرو نوهان، ومصطفي ماهر، ورضوى محمد.
وعلى خلفية مساعي لتنظيم تحالف سياسي لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة ألقت السلطات المصرية القبض على عشرات الشباب الحزبي لمجرد التخطيط لممارسة الحق في المشاركة السياسية (القضية 930 لسنة 2019 أمن دولة)، منهم البرلماني السابق زياد العليمي والمعارض السياسي ومنسق حركة مقاطعة إسرائيل في مصر رامي شعث ورجل الأعمال والاقتصادي عمر الشنيطي، والناشط والقيادي بحزب تيار الكرامة حسام مؤنس والناشط العمالي حسن البربري وعضو مجلس نقابة الصحفيين هشام فؤاد، بالإضافة لآخرين. ناهيك عن القبض على عشرات الصحفيين بتهم تتعلق بممارسة عملهم بمعزل عن التوجيهات الأمنية للوسائل الإعلامية، من بينهم محمد صلاح، وحسام السيد، وأحمد شاكر. وكذلك اعتقال المحاميين من ساحات المحاكم وأثناء التحقيقات مع موكليهم عقابًا على ممارسة دورهم الدفاعي عن ضحايا انتهاكات السلطات المصرية، مثل المحامي محمد رمضان، وابراهم متولي وعمرو إمام ومحمد حمدي يونس وآخرين.
هذا بالإضافة إلى الحيلولة دون أي جهود أو مبادرات تنظيمية للعمل الحقوقي والأهلي طالما تبنت خطابًا مغايرًا للخطاب الرسمي أو اهتمت بفضح ورصد الانتهاكات المختلفة. إذ يعاقب الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني بالسجن 10 سنوات على خلفية نشاطه الجاد في ملف الأوضاع الاجتماعية لأهالي سيناء، كما يعاقب الباحث العمراني إبراهيم عز الدين بالحبس ومن قبله الاختفاء والتعذيب بسبب اهتمامه برصد الانتهاكات المتعلقة بالحق في السكن. بينما تتابع نيابة امن الدولة تجديد حبس الناشط رامي كامل بسبب رصده واهتمامه بالانتهاكات بحق الأقباط في مصر. كما تستمر السلطات المصرية في حبس النشطاء هيثم محمدين وخليل رزق على خلفية نشاطهما في ملف حقوق العمال، ويعاقب المحامي محمد الباقر على عمله الحقوقي في رصد الانتهاكات من خلال مؤسسة عدالة للحقوق والحريات، التي تواجه كغيرها من المنظمات الحقوقية والمبادرات التوعوية تضييقات واسعة وترّصد واضح بالعاملين، مثل المفوضية المصرية للحقوق والحريات، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ومركز النديم.
يأتي هذا كله بينما تبرز الأجندة التفصيلية لمنتدى شباب العالم وجلساته اهتمامًا ملحوظًا بموضوعات مثل الثورة الرقمية وتمكين المرأة وريادة الأعمال والابداع وصناعة التغيير، والحقيقة أنه في مصر ومنذ بيان النائب العام الصادر في 28 فبراير 2018، أصبح من أهم وظائف المحامين العموم ورؤساء النيابة العامة، متابعة ما ينشر في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من “أكاذيب وأخبار غير حقيقية يبثها أهل الشر” للنيل من أمن وسلامة البلاد، واتسعت دائرة “المحاصرة الرقمية” حتى أصبحت تدوينة شخصية عن محاولة تحرش من موظف عام للناشطةـ “أمل فتحي“ سببا في حبسها (القضية 621 لسنة 2018)، ومجرد استنكار “ملك الكاشف“ على صفحتها الشخصية للتعامل الحكومي مع حادثة قطار راح ضحيتها 23 مصريًا سببا لاعتقالها والتنكيل بها (القضية 1739 لسنة 2018).
ففي مقابل أحاديث متصلة من جانب السلطات المصرية عن مساعي تمكين وتفعيل دور المرأة تتعرض الناشطات المصريات لأسوأ حملة قمع استهدفت اسكات أصواتهن والحيلولة دون نشاطهن الصحفي أو الحقوقي، وهي الحملة التي ارتفعت وتيرتها في الأسابيع القليلة الماضية وطالت الناشطة إسراء عبد الفتاح، والصحفية سولافة مجدي والمحامية ماهينور المصري، وحبس جميعهن على ذمة القضية 488 لسنة 2019.
هذا النمط من الاستهداف للشباب الفاعل في مصر ليس بجديد، فقد بدأت تتضح ملامحه منذ انتخابات التجديد الثانية للرئيس الحالي وقبيل حملته لتعديل الدستور لضمان مد فترة ولايته. ولعل القضية 441 لسنة 2018 حصر أمن دولة والقضية 621 لسنة 2018 مجرد أمثلة على ذلك. فعلى خلفيتهما تم القبض على العديد من الصحفيين والنشطاء السياسيين والباحثين والحقوقيين من بينهم الناشط والمدون وائل عباس وشادي الغزالي حرب وشادي أبو زيد والطبيب وليد شوقي والمدون أيمن عبد المعطي، والصحفيين مصطفي الأعصر وحسن البنا ومعتز ودنان، بالإضافة إلى المدافعين عن حقوق الإنسان عزت غنيم وعزوز محجوب وسيد البنا، بالإضافة للناشط محمد عادل وقد وجهت لجميعهم تهم فضفاضة معلبة تتمحور جميعها حول التعاون مع جماعات إرهابية ونشر أخبار كاذبة وتكدير السلم وغيرها من الاتهامات التي تفتقر للقرائن والدلائل وتعتمد فقط على تحريات الأمن الوطني، وتستخدم فقط لتوظيف عقوبة الحبس الاحتياطي لعامين بحقهم، حتى يتم إعداد قضية جديدة يستهلك الحبس الاحتياطي فيها عامين آخرين من أعمارهم، وهو ما حدث مع عدد من النشطاء أبرزهم محمد القصاص نائب رئيس حزب مصر القوية والمتهم في القضية 1781 لسنة 2019 بعقد اجتماعات في السجن على الرغم من حبسه انفراديًا لفترة تقترب من عامين في قضيته الأولى رقم 977 لسنة 2017.
هذا التناقض الفج بين الخطاب الرسمي في المنتديات والمحافل الدولية وبين الممارسات الفعلية على أرض الواقع تؤكده عشرات القضايا ومئات الشباب المحتجزين على اختلاف خلفياتهم السياسية ومجالات عملهم وانتماءاتهم الفكرية وطبيعة أنشطتهم بينما تجمعهم تهمة واحدة مكررة يتم توظيفها منذ سنوات ليس فقط للانتقام من المعارضين السياسيين أو الحقوقيين ولكل كل من يقرر أن يعارض التوجيهات الرسمية والأمنية في مجاله.
Share this Post