يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن إدانته الشديدة للوثيقة التي اعتمدها مجلس وزراء الإعلام العرب بعنوان “مبادئ تنظيم البث والاستقبال الإذاعي والتليفزيوني الفضائي في المنطقة العربية”. ويؤكد المركز أن الوثيقة التي تتستر وراء لافتات أخلاقيات العمل الإعلامي تستهدف بالدرجة الأولى منح غطاء قومي وأخلاقي زائف لتقليص هامش الحرية الذي تمتعت به وسائط البث في عدد من البلدان العربية، تحت تأثير ثورة الاتصالات والمعلومات، أو نتيجة للضغوط الخارجية وأشكال الحراك المجتمعي من أجل الديمقراطية.
ومن المثير للسخرية أن جامعة الدول العربية، التي فشلت في إحراز إنجاز واحد في قضايا العرب المصيرية من فلسطين للعراق والصحراء المغربية وجزر الإمارات المحتلة، وصولا إلى لبنان وجنوب السودان ودارفور، يجري استخدامها كمنصة لهذه الهجمة “الوحدوية العربية” على حرية التعبير.
ولا يخلو من دلالة في هذا الصدد أن تأتي هذه الوثيقة بمبادرة من الحكومة المصرية التي تشهد فيها الحريات الإعلامية تدهورا خطيرا، تمثلت ابرز مظاهره في أحكام السجن التي تتهدد خمسة من رؤساء تحرير الصحف الحزبية والمستقلة دفعة واحدة، بخلاف مئات الدعاوى القضائية بحق الصحفيين التي ما تزال محل نظر من قبل المحاكم أو جهات التحقيق، فضلا عن حملات التحريض على الصحافة والفضائيات، التي يشارك فيها مسئولون ووسائل إعلام حكومية، تحت دعوى الخروج عن أخلاقيات المهنة والإساءة إلى سمعة مصر، من خلال نشر تجاوزات الشرطة بحق المواطنين ووقائع التعذيب. كما لا يخلو من دلالة أيضا أن ينضم لهذه المبادرة الملكة السعودية، التي تمارس سطوتها ونفوذها ليس فقط على الوسائط الإعلامية داخل المملكة، بل على العديد من وسائط الإعلام في المنطقة العربية.
ويؤكد المركز في هذا الإطار أن أية قواعد وثيقة الصلة بأخلاقيات العمل الصحفي والإعلامي ينبغي أن تستمد من المشتغلين بالمهنة ومؤسساتهم النقابية، كما ينبغي أن توكل مهمة تقييم الأداء الإعلامي ومدى التزامه بمواثيق الشرف المهنية إلى هيئات تتمتع بالاستقلال والنزاهة، ولا تخضع لنفوذ الحكومات.
ويلاحظ المركز أن الوثيقة تطلق يد الحكومات في استصدار ما يعن لها من تشريعات لإعمال المبادئ والقواعد التي تضمنتها الوثيقة، واعتماد ما تراه من تدابير بحق الوسائط الإعلامية، التي تخرق هذه القواعد، بما في ذلك مصادرة أجهزة البث وسحب أو وقف أو إلغاء تراخيص البث.
وعلى حين يروج أصحاب هذه المبادرة إلى أنها تستهدف الارتقاء بالأداء الإعلامي، وحماية القيم الأخلاقية والتصدي لدعاوى الجهل وإشاعة الخرافة والدجل، فإن هدفها الأسمى يتبدى في تحصين النظم العربية وسياساتها وممارساتها ورموزها من النقد والحيلولة دون مناقشة المشكلات الكبرى التي تعانيها المجتمعات العربية، والتي تجعلها أكثر مناطق العالم تخلفا.
ومن ثم لم يكن غريبا أن الوثيقة رغم ادعائها الالتزام باحترام حرية التعبير، بوصفها ركيزة أساسية من ركائز العمل الإعلامي العربي، فإنها سرعان ما تبادر إلى التملص من هذا الالتزام بالتأكيد على أن “تمارس هذه الحرية بمسئولية بما من شأنه تعزيز المصالح العليا للدول العربية”. ومن ثم فقد استدعت الوثيقة كافة التعبيرات الإنشائية غير المنضبطة، التي تحفل بها التشريعات العربية والتي اعتادت الحكومات توظيفها دوما لمصادرة الحريات الإعلامية وحرية التعبير. مثل “الامتناع عن بث كل ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي، واحترام كرامة الدول وسيادتها الوطنية، وعدم تناول قادتها أو رموزها الوطنية والدينية بالتجريح”، وغيرها من العبارات المطاطة المماثلة.
لقد سبق لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن أكد في دراسة حديثة منشورة حول فرص تحرير الإعلام في العالم العربي*، أن الطريق ما يزال طويلا أمام الانتقال لأن يجسد قطاع الإعلام السمعي والمرئي المعايير المتعارف عليها في المجتمعات الديمقراطية، لضمان حرية وتعددية واستقلالية البث الإعلامي.
ولو أراد وزراء الإعلام العرب بحق إعادة هيكلة وتنظيم وسائط البث في إطار داعم لحرية التعبير وحرية الإعلام، فإننا ندعوهم إلى العودة إلى حكوماتهم وإقناعها بتبني حزمة من التوصيات التي انتهت إليها الدراسة، والتي تشكل أساسا مشتركا لتعزيز الحريات الإعلامية، وفي مقدمتها:
مراجعة كافة النصوص التشريعية غير المنضبطة التي تفتح بابا واسعا لتجريم الرأي والنشر وتداول المعلومات عن طريق النشر أو البث.
إعادة النظر في مختلف القيود التشريعية التي تقف عائقًا أمام حرية تداول المعلومات والنفاذ إليها، والتي تصادر حق المواطنين في المعرفة.
تعزيز حق الإعلاميين في التمتع بمظلة الحماية النقابية، ومنح الإعلاميين الدور الأكبر في إعداد ومراقبة الالتزام بمواثيق الشرف الأخلاقية.
إنهاء سيطرة الحكومات واحتكارها لمجال البث العام، بما يضمن تحول هذا القطاع لمؤسسات خدمة عامة للجمهور، تتمتع بالاستقلالية على مستوى الإدارة والتمويل والبرامج، وبما يضمن إدارة هذا القطاع وفقا لاعتبارات المصلحة العامة للمجتمع، وبما يلبي ميول والاحتياجات المتنوعة للجمهور في مجتمع تعددي.
إخضاع إدارة وتنظيم قطاع البث السمعي والبصري إلى مجالس أو هيئات تنظيمية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ويخضع اختيار أعضائها للأسس الديمقراطية، واعتبارات الكفاءة والخبرة. وتؤول إلى هذه الهيئات صلاحيات منح تراخيص البث، وفقا لمعايير الشفافية والعلنية. على أن يخضع عمل وقرارات هذه الهيئات لمراقبة الشعب، فضلا عن مراقبة القضاء.
* صدرت هذه الدراسة قبل نحو ستة أشهر تحت عنوان “الإعلام في العالم العربي بين التحرير وإعادة إنتاج الهيمنة”
Share this Post