بدعوة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان انعقد بباريس يومي 12-13 أغسطس 2003، المنتدى الإقليمي السادس للحركة العربية لحقوق الإنسان حول السبل العملية لتجديد الخطاب الديني، بين نخبة من المفكرين والباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان من 8 دول في العالم العربي (نحو ثلاثين مفكرا وباحثا وحقوقيا). وعبر ست جلسات، قدمت أوراق عمل أساسية للكتّاب: أحمد عبد المعطي حجازي، د. الباقر العفيف، جمال البنا، صلاح الجورشي، د. فيصل دراج، د. نصر حامد أبوزيد. وقد دار الحوار حول هذه الأوراق شفاهة تارة وبالتعليق المكتوب تارة أخرى، في مناخ من الجدية والالتزام والعمق، والشعور بالمسئولية الحقة بين المفكرين والباحثين الذين كانت مشاركتهم تعبيرا عن ذواتهم الفكرية الفردية لا تعبيرا عن أحزاب أو هيئات أو جماعات منظمة.
تمحورت أوراق العمل والحوارات حول الإجابة عن سؤال أساسي هو: كيف يمكن التوفيق بين العالم الحديث الذي بلغ من التطور العلمي والتكنولوجي والاجتماعي والسياسي والثقافي مبلغا مذهلا، وبين تراثنا الديني والفكري، دون أن نفقد خصوصيتنا الثقافية، ودون أن ننعزل عن الدنيا التي تجري “ونحن هاهنا قاعدون”؟
وتتلخص المستخلصات الأساسية لهذا المنتدى في النقاط التالية:
أولا: أن “تجديد الفكر الديني” كان مسعى أساسيا في مسيرة الثقافة العربية الإسلامية منذ فجر الإسلام، ثم في مدارس المعتزلة وابن رشد والتصوف وإخوان الصفا وغيرها من بؤر الاستنارة. وفي العصر الحديث شهد الفكر الديني حلقات متتالية من اجتهادات المفكرين ومشاريعهم النهضوية، بدءا من حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وبن باديس، مروراً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي وشبلي شميل والطاهر الحداد، وليس انتهاء بطه حسين وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمود محمد طه وحسين مروة، وتلاميذهم المعاصرين.
ثانيا: أن تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة، انطلاقا من أن هذا التجديد مفصلٌ جوهري في عبور الفجوة الواسعة التي تفصل العالم العربي والإسلامي عن العالم المتقدم.
ثالثا: أن تجديد الخطاب (الإسلامي) ضرورة داخلية (عربية-إسلامية) عميقة، تنبع من رفض العرب والمسلمين لوضعهم المتردي في العالم، وهي ضرورة لا صلة لها بمطالب بعض الدول الكبرى، حتى لو حدث تماس في لحظة من اللحظات. وهي مهمة لا تنحصر في جهد رجال الدين المستنيرين، بل يجب أن تكون من أولى مهام المفكرين والمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان، انطلاقا من النظر للإنسان باعتباره قيمة مركزية عليا، ومن أهمية تحكيم العقل في كل شئون الحياة.
رابعا: ضرورة التمييز بين “الإسلام” وتاريخ المسلمين، فالتاريخ السياسي للمسلمين، هو تاريخ بشري حافل بما يوجب النقد والنقض.
خامسا: رغم تنوع آراء المشاركين ومداخلهم بشأن طرق ذلك التجديد وأشكاله، فقد أجمعت على حقيقة أساسية هي أن تجديد الخطاب الديني عامل رئيسي في تجديد الواقع السياسي والاجتماعي بأسره في العالم العربي، كما أنه لا يمكن تحقيق تجديد الخطاب الديني بدون الشروع في إصلاح سياسي شامل يشيد دعائم دولة ديمقراطية تضمن التعددية وتحمي الحريات العامة وحرية الفرد وحقه في التفكير والاختيار، وهو الحق الذي بدونه لا تتوافر حرية البحث العلمي، وخاصة في مجال الدراسات الاجتماعية.
سادسا: أن تجديد الخطاب الديني لن يؤتّي ثماره المرجوة بدون إصلاح ثقافي مجتمعي ينطلق من الإيمان بنسبية المعارف، وبحقوق البشر في الحوار والمساءلة، وهو ما يعني خلق حالة فكرية اجتماعية سياسية شاملة، وفك الارتباط بين السلطات السياسية المستبدة وبين الفكر الديني المتجمّد أو المتخلف أو المتطرف.
سابعا: أن أبرز المعوقات أمام تجديد الخطاب الديني في العالم العربي، التوظيف السياسي للدين بواسطة الحكومات العربية والجماعات المتطرفة وبعض الأحزاب السياسية، لخدمة أهدافها الخاصة، وكذلك ازدهار دعاوى صراع الحضارات والثقافات في العالم العربي والغربي. كما أن الشعور الراسخ لدى الشعوب في العالم العربي بعدم الإنصاف والتهديد، نتيجة تخاذل أغلبية الحكومات الغربية عن دعم القضايا العادلة للشعوب العربية، واتخاذ مواقف عدائية أحيانا ضدها –وخاصة في القضية الفلسطينية- يلعب دورا مركزيا في دعم الخطاب الديني المتطرف وتكريسه، وإضفاء “شعبية” عليه تتناقض والمصالح بعيدة المدى للشعوب ذاتها.
ثامنا: تبلورت، عبر الحوار الرفيع، ثلاثة اتجاهات أساسية:
الاتجاه الأول: يرى أن القرآن فيه كل الإجابات، وأن قراءة سليمة صحيحة للدين ستكشف عن أن القرآن زاخر بمعاني التجديد والحرية والعقل والتقدم والعدالة والشورى واحترام الآخر، فهو عقيدة وشريعة.
الاتجاه الثاني: يقول بتاريخية النصوص، وضرورة الاجتهاد على كل مستويات قراءة النص. فالمعاني لا تعطي ذاتها للقارئ وإنما يتم استنباطها على ضوء التجربة التاريخية، حيث أن النص القرآني ذاته استعمل خطاب التاريخ. ومن ثم تصبح كل قراءة ممكنة مرهونة بالتاريخ المعطى، حيث تتجلى ضرورة إخضاع التفسيرات الموروثة للنقد باعتبار أنها القراءة الخاصة بزمانها، وذلك على ضوء معاشنا الراهن ومعطيات حياتنا المعاصرة. ويدعو هذا التيار إلى الدولة العلمانية التي لا تعني نفي الدين أو التناقض معه وإنما تطلق إمكانياته الروحية الكامنة من عقال القراءات الزمنية وأسر التوظيف السياسي والانتهازي. وفي نفس الوقت تصبح المرجعية في شئون السياسة والتشريع مدنية لا دينية.
الاتجاه الثالث: يقوم على أساس الفصل بين “الدين” و”الفكر الديني”. حيث الأول مقدس إلهي لا يمس، بينما الثاني بشري يخطئ ويصيب ويتغير بتغير العصور والحاجات الإنسانية المتحولة.
ويتفرع هذا التيار إلى فرعين:
فرع يرى تجديد الفقه الديني وأصوله منطلقاً من مرجعية القرآن وحده، مع ضبط الحديث والسنة بمعايير القرآن الكريم.
وآخر يرى تجديد الفكر الديني عبر إعادة تسليط الضوء على النصوص العمومية والعمل بها، دون النصوص الخاصة بحقبة زمنية معينة ومنطقة جغرافية بعينها أو مناسبة بذاتها.
وأعرب آخرون عن اعتقادهم بضرورة وضع مشروع علماني عربي، بينما توقع آخرون بأن رياح التجديد في الخطاب الديني الإسلامي ستهب من خلال التفاعلات الجارية بين الإسلام والمسلمين في أوروبا والمجتمعات الأوروبية، فيما صار يعرف في الأوساط الأكاديمية الأوروبية والإسلامية بـ”الإسلام الأوروبي”، تمييزا له عن الإسلام “الآسيوي” أو “العربي”.
تاسعا: خلص المشاركون إلى عدد من التوصيات الهامة، الموجهة إلى: الحكومات (بوصفها المهيمنة على المؤسسات الدينية الرسمية وقنوات بث الخطاب الديني وآلياته في العالم العربي)، والمجتمع المدني وخاصة الحركات الثقافية والاجتماعية والحقوقية في العالم العربي، هي:
- دعوة الحكومات لمراجعة مضامين الخطاب الديني في مناهج التعليم الديني وغير الديني وتطويرها، وتخصيبها بأفكار المجددين الدينيين.
- حث المسئولين عن وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية -المملوكة للحكومات أو الأفراد- على مراجعة مضامين الخطاب الديني السائد فيها وتطويرها، بما يجعلها تتلاءم مع مشاكل العصر الراهنة، وعدم التعتيم على جهود دعاة التجديد الديني التاريخيين والمعاصرين.
- حث الحكومات والحركة الثقافية والمؤرخين والحقوقيين على إعادة الاعتبار للتراث الديمقراطي والحقبة الليبرالية السابقة في العالم العربي، والتي كان من بين أبرز خصائصها، أنها أتاحت المناخ الأفضل لرؤى التجديد في الفكر الديني.
- حث الحكومات على ضرورة مراعاة أن تعامل كافة الأديان والمذاهب معاملة متكافئة في برامج الإعلام ومناهج التعليم.
- جمع وإعادة نشر المؤلفات الدينية التجديدية (البعيدة والقريبة) في سلسلة كتب أو كراسات صغيرة.
- حث المفكرين والأكاديميين والإعلاميين على تناول أعمال المجددين الدينيين بالبحث والمناقشة والنقد بكل وسائل النشر والاتصال المتاحة.
- العمل على استخدام الأوعية الفنية والثقافية والإعلامية في تجديد الخطاب الديني.
- تيسير الحصول على المعارف الدينية المستنيرة، باستخدام الإنترنت وشرائط الكاسيت والفيديو والكتب والكراسات المبسطة سهلة التداول.
- تنظيم دورات تدريبية خاصة حول تجديد الخطاب الديني لوعاظ المساجد والأئمة ومحرري الصفحات الدينية في الصحف، ومعدي البرامج الدينية في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ومدرسي المعاهد الدينية، بمشاركة مجددي الفكر الديني ودعاة حقوق الإنسان.
- إنشاء موقع خاص على الإنترنت بقضية تجديد الخطاب الديني وتخصيص زاوية فيه للحوار المفتوح، وإنشاء بنك معلومات خاص بتجديد الخطاب الديني.
- ضرورة التعريف بالفكر الصوفي وأنماط التدين الشعبي.
- حث منظمات المجتمع المدني والحقوقيين والمفكرين على إدارة حوار استراتيجي بعيد المدى مع جماعات الإسلام السياسي حول دور الدين في المجتمع وموقع الإنسان في خطاب هذه الجماعات.
- حث علماء الدين والمفكرين الإسلاميين على ضرورة مساجلة المرتكزات الفقهية للعنف والتطرف والإرهاب، وعدم الاقتصار على رفض وإدانة الجرائم التي ترتكب بناءً عليها.
- مناشدة علماء الدين والمفكرين الإسلاميين الامتناع عن التوظيف الأعمى لقدسية الدين والزج به في التحريض على مصادرة الفكر والأدب وإعمال العقل. إن الالتزام الديني والأخلاقي يحتمان عليهم الإنصات للأسئلة النابعة من المجتمع على أساس التمييز بين الإسلام كدين، والفقه كمعرفة أنتجها فقهاء وباحثون بشر، بما يتطلبه ذلك من إجراء مصالحة بين الفكر الإسلامي ومتطلبات التقدم المادي والمجتمعي والأخلاقي في العصر الحديث.
- رفض مصادرة أي كتاب أو مطبوعة، والعمل الفوري من قبل جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الثقافية والديمقراطية على نشر أي كتاب تتم مصادرته بواسطة أجهزة الأمن أو الإدارة الحكومية أو المؤسسة الدينية في أي بلد عربي.
- قد إعلان حقوق الإنسان في الإسلام، باعتباره نموذجاً للقيود غير المبررة التي تضعها الأنظمة السياسية والقوى الاجتماعية على ممارسة حقوق وحريات أساسية وغير قابلة للتصرف. ومناقشة موقع الإعلان من منظومة حقوق الإنسان ومدى انسجامه مع المعايير الدولية ومقاصد الإسلام.
- تعريف الرأي العام “بالعلمانية” وإزالة الالتباس الذي لحق بمفهومها، والتأكيد على أنها لا تعارض الدين كدين، بل تعارض تسييس الدين.
- ضرورة استمرار الحوار بين الباحثين والمفكرين والحقوقيين، بحيث يصبح هذا الملتقى منبرا فكريا دائما للحوار الفكري والثقافي والحقوقي حول تجديد الخطاب الديني.
- ضرورة أن يتسع الحوار ليشمل قطاعات متعددة في المجتمع، لأن الإصلاح أو التجديد الديني غير محصور في رجال الدين، بل يشمل المجتمع ككل، خاصة قطاعات الإبداع (كتاب وفنانون، أدباء)، الإعلام، التربية والتعليم، الأحزاب، النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، أساتذة الجامعة، فضلاً عن رجال العلم والتعليم الديني أنفسهم.
- ضرورة إيلاء عناية خاصة في تجديد الخطاب الديني لفئات المرأة والشباب والأطفال والفقراء والمهمشين، وكافة العناصر المحرومة من القوة.
- أهمية أن تتناول المنتديات القادمة قضايا حرية الفكر والاعتقاد والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني، ووضع المرأة والطفل.
- نشر أوراق ومداولات هذا المنتدى في كتاب خاص.
للإطلاع على الأوراق الصادرة عن المنتدى الإقليمي الثاني للحركة العربية لحقوق الإنسان:
Share this Post