بمجرد دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز النفاذ في 15 يناير، شرعت إسرائيل بسرعة في توجيه ضرباتها العسكري إلى الضفة الغربية. وفي 21 يناير، أطلقت عملية «الجدار الحديدي»، وفرضت تدابير أمنية قاسية في جميع أنحاء الضفة الغربية. هذا التصعيد لا يؤدي فقط إلى تعميق الأزمة الإنسانية الخطيرة الحالية ويُعجل بضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وإنما يؤكد على كلفة الإفلات من العقاب الذي يسمح لإسرائيل بإدامة انتهاكاتها المنهجية دون عواقب. هذا بالإضافة إلى تزامنه مع دعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غير المسئولة، بتهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، الأمر الذي زاد من تطبيع خطاب التطهير العرقي الخطير، وطرحه كسياسة قابلة للتطبيق.
فبدلًا من أن تحترم إسرائيل التزاماتها بإنهاء الفصل العنصري والاحتلال، قررت تبديل وجهة هجماتها إلى الضفة، في إعلان واضح بضمان الإفلات من العقاب، وتأكيد على أن دعم الدول القوية مثل الولايات المتحدة سيستمر في التسبب في القتل الجماعي للفلسطينيين وتمديد معاناتهم تحت وطأة العنف الذي لا هوادة فيه والحرمان الناجم عن الاحتلال.
تقول آمنة القلالي مديرة البحوث بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان: «الهجوم الإسرائيلي على الضفة في أعقاب وقف إطلاق النار في غزة؛ يعد امتداد لنظام القمع نفسه المفروض على الفلسطينيين منذ عقود. إذ أن أحداث 7 أكتوبر 2023 لم تكن بداية العنف ونزع الملكية والإفلات من العقاب، والذي لن ينتهي بوقف إطلاق النار الهش والمؤقت. لقد رسخ الاحتلال العسكري الإسرائيلي نظام فصل عنصري؛ حرم الفلسطينيين بشكل منهجي من حقوقهم الأساسية بما في ذلك حقهم في الحياة وتقرير المصير. وبدون المساءلة وإنهاء الاحتلال، سيظل الفلسطينيون محاصرين في دوامة من العنف المتصاعد».
بعد إعلان وقف إطلاق النار، تصاعدت على نحو مثير للقلق، الهجمات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية (والمتواصلة منذ 2023). ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا)، أسفرت هذه الهجمات عن مقتل أكثر من 829 فلسطينيًا في الضفة الغربية بين 7 أكتوبر 2023 و15 يناير 2025، 498 منهم لقوا حتفهم عام 2024 وحده. ومن مطلع العام الجاري وحتى 23 من شهره الأول، قُتل 34 فلسطينيًا في الضفة الغربية، بينهم 6 أطفال.
في 21 يناير الجاري، أعلنت إسرائيل عملية «الجدار الحديدي» في محيط مخيم جنين للاجئين. وقد تضمنت اجتياحًا بريًا وغارات جوية، بالإضافة إلى إجراءات أمنية مشددة واعتقالات جماعية وقيود على حرية تنقل الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة. ونتيجة لذلك، أصبح الوصول للخدمات الأساسية أكثر صعوبة. ومن المتوقع أن يزداد الأمر سوءً بعدما أمرت إسرائيل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) بإخلاء جميع المباني في القدس الشرقية ووقف عملياتها بحلول 30 يناير. وذلك في أعقاب اعتماد الكنيست الإسرائيلي لقانونين في أكتوبر 2024، دخلا حيز التنفيذ هذا العام، يمنعا السلطات الإسرائيلية من الاتصال بالأونروا ويحظرا عمل الأونروا في المناطق الخاضعة للسيادة الإسرائيلية.
منذ عام 1948، تتبع إسرائيل نظامًا قانونيًا وممارسات تمييزية وقمعية بحق الفلسطينيين، بما في ذلك نزع ملكية الأراضي، والتهجير الجماعي، والفصل العنصري، والقيود الصارمة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وحاليًا، تسعى إسرائيل من خلال تصعيد عملياتها في الضفة، تحت ذريعة التدابير الأمنية، إلى تعزيز التمييز المنهجي المتجذر بحق الفلسطينيين، لا سيما في مخيم جنين والمناطق المحيطة به. هذه التدابير الأمنية تضمنت؛ توغلات عسكرية على نطاق واسع، ونقاط للتفتيش، وحظر التجول الليلي، وقصر الدخول إلى البلدات عبر بوابات مثبتة حديثًا. هذا بالإضافة إلى تنامي عنف المستوطنين الإسرائيليين المسلحين المدعومين من الدولة وهجماتهم العنيفة على التجمعات السكانية الفلسطينية.
وبدلًا من محاولة الحد من عنف المستوطنين، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في 24 يناير 2025 تعليق جميع العقوبات المفروضة على المستوطنين الإسرائيليين المتورطين في هجمات عنيفة ضد الفلسطينيين، ورفع العقوبات عن المنظمات المتورطة في بناء البؤر الاستيطانية غير القانونية. بهذا القرار، الذي يحمل موافقة ضمنية على العنف الإسرائيلي خارج نطاق القانون، تشجع الولايات المتحدة حركة بناء المستوطنات، التي تعد الذراع الأساسية للتوسع الاستعماري الإسرائيلي وآلية ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى توسع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية المستمر، إذ تمت إضافة أكثر من 30,000 وحدة سكنية عام 2023، بزيادة قدرها 180 % خلال السنوات الخمس الماضية. وبحلول سبتمبر 2023، كان حوالي 700 ألف مستوطن يقيمون بشكل غير قانوني في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. هذا التوسع يتم من خلال مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي، معظمها من الأراضي ذات الملكية الخاصة، تعلنها إسرائيل كأراضي دولة. ووفقًا للجنة التحقيق الدولية المستقلة عام 2022، صادرت إسرائيل ما يقرب من 2000 كيلومتر مربع في المنطقة (ج) وحدها منذ عام 1967، أي ما يتجاوز ثلث الضفة الغربية. كما خلص الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الصادر في يوليو 2024، بأن إسرائيل ضمت أجزاء من الأرض الفلسطينية المحتلة، وأنها صادرت الموارد الطبيعية في الأرض الفلسطينية المحتلة على نحو يخالف التزاماتها الدولية، وذلك من خلال نقل نسبة كبيرة من الإسرائيليين، بمن فيهم المستوطنين إلى هذه الأراضي.
أما اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا، بالنقل القسري لسكان غزة إلى مصر أو الأردن، فيعد جريمة حرب، أعلنت كلا البلدين رفضهما الاشتراك فيها. إلا أن تصريحاته الاستفزازية هي جزء من نمط أوسع، تتبعه إسرائيل بدعم من عدة دول، أبرزها الولايات المتحدة، بهدف تهجير الفلسطينيين ومحو وجودهم من أراضيهم. والآن، لا يمكن لبقية المجتمع الدولي، وخاصة الدول العربية، الوقوف مكتوفي الأيدي في مواجهة مثل هذه الخطابات والسياسات. يجب اتخاذ إجراءات حازمة لتجنب نكبة وإبادة جماعية أخرى في فلسطين.
عملية «الجدار الحديدي» جاءت بعد فترة وجيزة من انتهاء عملية أخرى قادتها السلطة الفلسطينية في مخيم جنين ومحيطه. فبين 5 ديسمبر 2024 و17 يناير 2025، شنت قوات الأمن الفلسطينية عملية ضد «كتائب جنين»، وهو تحالف من الجماعات الفلسطينية المسلحة. ما تسبب في مقتل العديد من المدنيين وتشريد أكثر من 2000 أسرة. كما انحسرت بشكل متزايد إمكانية الحصول على الخدمات الأساسية، لا سيما بعد تضرر مرافق الأونروا واضطرار الوكالة تعليق عملياتها.
كما فرضت السلطة الفلسطينية قيودًا منهجية ومتزايدة على الحريات الفردية في الأراضي المحتلة، لا سيما على حرية التعبير والتجمع. إذ أفادت جماعات حقوقية أنه تم استدعاء عشرات الأشخاص واستجوابهم، وتعرض بعضهم للضرب، بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعارض هذه العملية. وفي رسالة مفتوحة مؤخرًا، سلطت جماعات حقوقية في الضفة الضوء على القمع المكثف الذي تمارسه السلطة الفلسطينية هناك.
إن المشاركة السياسية حق حاسم أهملته السلطة الفلسطينية لسنوات؛ إذ أجريت أخر انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، بينما في 2005 كانت أخر انتخابات رئاسية. تشكل الانتخابات الفلسطينية الحرة والنزيهة خطوة أساسية نحو أي حل سياسي مستدام يعزز العدالة والسلام.
مركز القاهرة يطالب الدول بفرض حظر على تصدير وبيع الأسلحة إلى إسرائيل، وفرض عقوبات على المستوطنات غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وذلك تنفيذًا للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في يوليو الماضي، والذي يلزم الدول بعدم الاعتراف بالوضع الناشئ عن الاحتلال الإسرائيلي، وعدم تقديم أي شكل من الدعم للحفاظ عليه. كما يطالب المركز الولايات المتحدة بشكل خاص بإعادة فرض العقوبات على المستوطنات غير القانونية. ويشدد على أهمية التزام جميع الدول بتنفيذ مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالانت، والقبض عليهما، في حالة سافروا خارج إسرائيل، ونقلهم إلى لاهاي لمحاكمتهم.
إن انحسار العنف في غزة وتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين خطوتان إيجابيتان، لكن هناك حاجة ماسة إلى بذل جهود جادة نحو حل مستدام طويل الأمد. حل يضمن إنهاء الاحتلال ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ويؤكد الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك تقرير المصير، ويضمن محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها.
Share this Post