رؤية تحليلية لدستور 71 وأهم مشكلاته نشرت بالمصري اليوم في نوفمبر2011
كتبها بهى الدين حسن
يمكن القول أنه توجد ثلاثة توجهات في التعامل مع قضية الإصلاح الدستوري في مصر، الأول اتجاه «الواقعية»، وهي تلك التي لا تنطلق من التفكير بالأماني والتمنيات ، وإنما من النظر لما يجري علي الأرض، وعلاقات القوي الفعلية والوزن النسبي للأطراف الداعية للإصلاح السياسي بشكل عام، والدستوري بشكل خاص، ووزن الأطراف غير الراغبة في الإصلاح، بل التي تعد المسرح في واقع الأمر لإجراء تعديلات تعود بدستور ٧١ خطوات أخري للخلف تقترب به من بقية دساتير يوليو فيما يتعلق بالحقوق والحريات العامة.
النظرة الواقعية لمعسكر الإصلاح السياسي تقول إنه ينقل أقدامه بصعوبة هائلة في رمال صحراء سياسية قاحلة، تلك التي تحولت مصر إليها بعد يوليو ١٩٥٢، بالقضاء علي كل أشكال التنظيم السياسي والنقابي والأهلي المستقل ووسائل الإعلام المستقلة، فضلا عن أن الخلافات المعلنة وغير المعلنة تمزقه، علاوة علي الهواجس والوساوس إزاء النوايا المستقبلية، والعلاقات التحتية لأطرافه مع الحزب الحاكم وأجهزة الأمن، وبعضهم يعاني حالة فصام، يدعم الإصلاح في مصر، ويقف ضد الإصلاحيين في سوريا ولبنان وليبيا والسودان وغيرها. وهذا ما يفسر لنا هشاشة معسكر الإصلاح، وعدم قدرته علي انتزاع موقع مؤثر في معادلة علاقات القوي علي الأرض مع النظام الحاكم، حتى لو جرت أكثر الانتخابات نزاهة وحرية، ما لم يلتحم بالإخوان المسلمين، -الذين يرفضون مثلهم مثل النظام الحاكم- أي نمط من العلاقة الندية المتكافئة مع أحزاب وجماعات المعارضة الأخرى، ولذا فإن الموقع الذيلي هو الخيار الوحيد المطروح أمام المعارضة غير الإخوانية، سواء تحالفت مع النظام الحاكم أو الإخوان المسلمين.
ولعل هذا يفسر لنا لماذا لم يستطع معسكر الإصلاح أن يفرض مطلباً واحداً إصلاحياً جوهرياً، سواء من خلال التشريع، أو بأي وسائل أخري. واقع الحال المرير يدلنا علي أن ما اعتبره البعض «ربيع القاهرة» (٢٠٠٤ – ٢٠٠٥) قد انقضي بالفعل قبل أن تنتهي الانتخابات البرلمانية، ليبدأ خريف قاتم في ديسمبر الماضي بالحكم بحبس أيمن نور، وبدء تحريك دعاوي قضائية ضد القضاة المعارضين للتزوير، وقبل أن ينتهي ديسمبر كان قد شهد في ليلته قبل الأخيرة مذبحة مروعة للاجئين السودانيين في قلب القاهرة، كانت في جوهرها رسالة سياسية للمصريين، بأن هامش التسامح ضد أشكال التجمع والتظاهر السلمي قد ولت، وهو ما جري تطبيقه بالفعل في الأسابيع والشهور التالية.
لم يبق من «ربيع القاهرة» سوي الهامش الذي تتمتع به الصحافة المعارضة والمستقلة الحقيقية ونادي القضاة ومنظمات حقوق الإنسان، ولكن إلي متي؟ في الجهة المقابلة كتلة حاكمة تملك كل أدوات السيطرة من حزب حاكم وأجهزة أمن ووسائل إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة وبقية موارد وإمكانيات الدولة، واستطاعت أن تحرم قوي الإصلاح من انتزاع أي مكسب جوهري خلال ومضات «ربيع القاهرة» الخاطف، وحتى الـ ٨٨ مقعدا التي حصل عليها الإخوان المسلمون بشق الأنفس في الانتخابات البرلمانية، استطاع النظام الحاكم أن يحولها إلي سلاح أقوي في يده، يعمق به الخلافات والمخاوف والهواجس داخل معسكر المعارضة، ويفرض خيارا مريرا وحيدا عليه. إما دعم الكتلة الحاكمة أو الإخوان المسلمين؟
الحداية ما بتحدفش كتاكيت!
أصحاب النظرة الواقعية يسخرون من القائلين بأن مصر تمر الآن بمرحلة إصلاح، يجب انتهازها، إنهم يجزمون بأنها مرحلة الهجوم المضاد للنظام الحاكم، وهم لا ينطلقون فحسب من إدراك مدي ضعف وهزال قوة الدفع نحو الإصلاح الآن، بل ومن مدي عنفوان قوة الدفع نحو تجذير وتعميق أركان الاستبداد، انطلاقا من الاستفادة بلحظة مواتية محلية ودولية قد لا تستمر طويلا، وفي منطقة مرشحة لاندلاع عواصف من الحروب الأهلية أو الإقليمية أو كليهما، قد تبدأ بالعراق ولا تتوقف عند لبنان وفلسطين ولا تنتهي بالسودان.
في ظل هذا الواقع المرير فإن إجابة أصحاب النظرة الواقعية، عن سؤال الإصلاح الدستوري ليست بالمطالبة بتغيير دستور ٧١، ولا حتى بتعديله، بل بالدعوة للتكتل لمنع الانقلاب علي أفضل ما فيه، أي البابين الثالث والرابع منه، المخصصين للحريات والحقوق والواجبات العامة وسيادة القانون، وكذلك المادة ٨٨ التي تكفل إشرافاً قضائياً جزئياً علي الانتخابات العامة. فالمشروع الحكومي المعلن لتحويل قانون الطوارئ إلي قانون دائم تحت ستار مكافحة الإرهاب، لن يفلح في وقف تمريره أي معارضة سياسية أو برلمانية، بل ما يعترضه هو بعض المواد في الباب الثالث من الدستور، وبدون إجراء تعديلات جوهرية تنتقص من بعض الضمانات الدستورية الموجودة في هذا الباب، فإن قانون مكافحة الإرهاب سيسقط أمام أول طعن أمام المحكمة الدستورية العليا، حتى برغم الانهيار التدريجي المتزايد في مصداقية هذه المحكمة في السنوات الأخيرة.
أصحاب النظرة الواقعية يقولون إن «الحداية» لم تتغير، وهي «ما بتحدفش كتاكيت»، ولن تفعل، وبدلاً من أن نأمل في تحويلها «لحمامة»، علينا أن نحمي ما بقي من «كتاكيت» بعيدا عن مخالبها.
أصحاب النظرة الواقعية لا يرغبون في تبديد أي جزء يسير من الطاقة المتاحة لقوي الإصلاح، حتى في المطالبة بتعديل المادة ٧٦، وهم يجادلون بأنه لا يوجد عاقل واحد يمكن أن يتوقع السماح بمنافسة جادة في انتخابات علي رئاسة الدولة، بينما يجري سحق مبدأ التنافسية بالأقدام حتى في انتخابات الطلبة والعمال. إنهم يعتقدون أن مضامين التعديل الذي سيجري علي تعديل المادة ٧٦ لا يمكن استنباطها من جدل الفقهاء الدستوريين، بل من مهازل الانتخابات الطلابية والعمالية التي تواكب معها الوعد بتعديل التعديل. إنهم باختصار ضد المطالبة بالإصلاح الدستوري الآن، لأن كل مطالبة به ستقود بمقتضي علاقات القوي الراهنة إلي الأسوأ.
مواءمات سياسية في كل اتجاه
الإجابة الثانية يمكن منحها عنوان «المواءمة السياسية»، وأصحابها مثل من سبقوهم، يدعون أيضا إلي التحلي بالواقعية، ولكنها لا يمكن وصفها بالواقعية المرة أو المريرة.
أصحاب المواءمة السياسية ثلاثة أجنحة. يعتقد الجناح الأول أن دستور ٧١ قد تجاوزه الزمن، وأن مصر تحتاج دستورا جديدا تماما، ولكن ليست هناك علاقات قوي مناسبة تسمح بذلك. بينما يعتقد الجناح الثاني من أنصار هذا المنهج أن دستور ٧١ يتضمن ركائز مهمة جيدة (وخاصة البابين الثالث والرابع المرشحين للاعتداء عليهما). ومع ذلك فإنه يحتاج تعديلات واسعة النطاق، لكي يتواءم مع درجة تطور المجتمع المصري بعد مرور ٣٥ سنة، ومع متطلبات تحديث النظام السياسي المصري، ورفع مستوي كفاءته. غير أنهم يسلمون في نهاية المطاف بأنه في ظل المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المتخلف السائد في المجتمع – بصرف النظر عن توجهات النظام الحاكم – فإن اعتبارات المواءمة السياسية تتطلب تأجيل المهمة والنزول بسقف الطموح إلي عدد من التعديلات المحدودة التي قد تلاقي قبولا «شعبيا»، وتتجنب إثارة غضب قطاعات متنوعة من المجتمع، مثل تلك المواد المتعلقة بنسبة الـ ٥٠% للعمال والفلاحين في المجالس التمثيلية، ومجانية التعليم العالي والدور القيادي للقطاع العام، والصحافة كسلطة رابعة، ودين الدولة، والشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، وغيرها من تعديلات توصف بعدم الشعبية، ويخشي من غضب أوساط متنوعة لمجرد إثارتها، قد تصل -كما يحذر البعض عن حق- إلي مخاطر الاغتيال.
ويؤدي ذلك عمليًا إلي التحام هذين الجناحين من أصحاب منهج «المواءمة السياسية» بالجناح الثالث في هذه المجموعة، والذي تؤول إليه القيادة عمليا. الجناح الثالث يتسم بروح براجماتية عملية، ويمكن القول واقعية أيضاً، ولا يتوقف للحظة عند المسائل الفلسفية والنظرية، فهو يعتنق ما يسمي منهج «الإصلاح الواقعي» و«أي شيء أفضل من لا شيء»، الذي يراعي بشكل أكثر جذرية اعتبارات المواءمة السياسية ليس مع المجتمع فحسب، بل أيضا مع التوجه السائد لدي الحزب الحاكم.
ومن هذا المنطلق فهو يقفز مباشرة إلي مجموعة من المطالب التي يعتقد أصحابها أنها قابلة للتحقيق، والتي تتمحور حول سلطة رئيس الدولة وطريقة انتخابه وعدد مرات توليه الحكم، وبعض المواد المتصلة بطبيعة علاقة السلطة التنفيذية بالتشريعية، وغيرها، ولكنها لا تبتعد كثيرا عن برنامج الرئيس الانتخابي. غير أن المشكلة التي تواجههم في هذا السياق، أن الرئيس – ومستشاريه – هو وحده الذي يملك تفسير ماذا يقصد بالشعارات الفضفاضة التي صيغت بذكاء يرضي جميع الأذواق الوطنية والدولية.
ولكن اللافت للنظر أن أصحاب مبدأ المواءمة السياسية لا يسترعي انتباههم علي الإطلاق المخاطر الوشيكة للاعتداء علي أفضل ما في دستور ٧١، التي يحذر منها «الواقعيون»، ولا نجد في إطار مطالبهم أي تحرك دفاعي جدي في هذا الاتجاه، بل إن تبني بعضهم – بحسن نية – مطلب إنشاء هيئة مستقلة للإشراف علي الانتخابات، يساهم دون قصد في تقويض أحد أهم مكاسب دستور ٧١، أي الإشراف القضائي الجزئي علي الانتخابات، ويقدمون – بحسن نية – دعما إضافيا لمخططات تصفية هذا المكتسب.
إن إجابة أصحاب منهج المواءمة السياسية هي بإيجاز، التعديل المحدود الذي لا يغضب أياً من جماعات المعارضة الرئيسية، ولا يستعدي النظام الحاكم، ولا يثير نقمة مجتمعية هنا أو هناك، وفي نفس الوقت يدفع بالبلد خطوة للأمام في مسيرة الألف ميل، ثم لكل حادث حديث.
الاتجاه الثالث : البحث عن العصافير
أصحاب الإجابة الثالثة، قد يبدو أنهم مفرطون في التفاؤل، ولكن من زاوية أخري قد يبدو أنهم لا يقلون تشاؤما عن أصحاب الاتجاه الأول في «الإصلاح» الدستوري. وهم لا يؤمنون بمبدأ أصحاب الاتجاه الثاني من أن «عصفور في اليد خير من عشرة علي الشجرة»، فهم يعتبرون أن العصفور الذي هو في اليد، هو وهم كبير، فلا شيء في اليد، أو أن العصفور ميت، وبرهانهم علي ذلك تعديل المادة ٧٦، وتوقعاتهم المتشائمة لتعديل التعديل. ولكنهم حالمون أيضا، فهدفهم هو العصافير التي علي الشجرة. ورغم أنهم يشاركون الاتجاه الثاني في الإيمان بالحكمة الصينية القائلة بأن «مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة»، إلا أنهم يعتبرون أن تطبيق أصحاب الموائمة السياسية لهذه الحكمة، لا ينطوي علي أي حكمة، وأن ما يطالب به هؤلاء ليس حتى خطوة واحدة للأمام، بل هو «محلك سير»، أي مجرد تنشيط القدمين وتحريكهما في نفس المكان، دون التحرك للأمام!
نقطة الانطلاق بالنسبة لأصحاب الاتجاه الثالث، هي المستقبل، وليس إصلاح الحاضر، وهم يعتقدون أن تركيز الطاقات المحدودة المتاحة علي وهم إصلاح الحاضر، سيؤدي لخسارة المستقبل والحاضر معاً. ولذا فإن المبدأ الأول وفقاً لمنهج هذا الاتجاه هو السعي لتغيير خريطة علاقات القوي، بما يسمح بإصلاح حقيقي في المستقبل، سواء كان سياسياً أم اقتصادياً، اجتماعياً أم ثقافياً، دستورياً أم تشريعياً، أم في كل هذه المجالات مجتمعة، فلن يمكن القيام بأي إصلاح حقيقي مهما كان جزئيا في أي مجال، دون القيام بتطوير نوعي في علاقات القوي، وهذا يتطلب عدم التواطؤ مع القيم السائدة في المستنقع السياسي والاجتماعي والثقافي الراهن – من وجهة نظرهم – وفتح كل الأمور للمناقشة العامة والمعمقة دون حسابات سياسية أو فصائلية أو مجتمعية، ودون التعامل مع المعارضة الحالية باعتبارها «بقرات مقدسة» يجب عدم المساس بها وبمعتقداتها وتصوراتها الأيديولوجية والسياسية، بل يجب الرهان أولاً وأخيراً علي إيقاظ المجتمع والثقة المستقبلية في الناس، وليس تبني المنهج الحكومي الذي يزدريهم ويتعامل معهم باعتبارهم غير موجودين، أو رصيداً محتملاً للفوضى والغوغائية.
أصحاب هذا المنهج يرون أن مشكلة المعارضة مع قضية الإصلاح لا تقل كثيراً عن مشكلة الحكومة، وأن المعارضة تحتاج إصلاحاً جذرياً لا يقل ضرورة وضراوة. غير أن منطقهم الراديكالي هذا قد يقود إلي تطيير كل العصافير من كل الأشجار، وربما الصياد الحالم نفسه!
أصحاب ما يسمي بالتوجه المستقبلي – ويشاركهم في ذلك الجناح الأول من أصحاب المواءمة السياسية – يعتقدون أن دستور ٧١ لا يصلح للبناء عليه بتعديله، لأسباب شكلية وفلسفية ومضامينية: فهو مهلهل وركيك ومعيب من ناحية الصياغة الفنية، بحيث لا يتحمل إدخال تعديلات أو مواد جديدة عليه، فالانحدار المهني فيه لم يبدأ بالصياغة الركيكة للمادة ٧٦، ولكنه موجود في بنية الدستور منذ عام ٧١، ويتخذ مظاهر مختلفة، منها: هناك عدد من المواد التي لا تنطوي علي أي ضمانة دستورية من أي نوع، وإنما هي مجرد عبارات إنشائية مكانها المفضل إما بعض الخطب السياسية الديماجوجية، أو علي غلاف كراسات تلاميذ المدارس.
المثل الأبرز لذلك المادة (١٣):«العمل هو واجب وشرف تكفله الدولة. ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع». أو المادة (٢١):«محو الأمية واجب وطني تجند كل طاقات الشعب من أجل تحقيقه».
بالطبع هذا التقييم النقدي لتلك المواد لا ينطلق من الواقع العملي الذي لا صلة له بهذه «الهتافات» الدستورية السالف الإشارة إليها، والتي لم تفلح لا في مكافحة الأمية التي تصل إلي نحو ٥٠%، ولا في وضع حد للصعود الصاروخي في معدلات البطالة.
هناك أيضًا مواد أخري مماثلة فالمادة (٦٠): «الحفاظ علي الوحدة الوطنية وصيانة أسرار الدولة واجب علي كل مواطن»! ما هي الضمانة الدستورية هنا؟ وتُري ما هي علاقة الوحدة الوطنية بأسرار الدولة؟!
وجود نصوص لا تقدم أي ضمانة «دستورية» في بعض أهم الأمور المركزية في أي دستور مثل الجنسية. فوفقًَا للمادة (٦): «الجنسية المصرية ينظمها القانون» وهي أقصر مادة في الدستور، ولا تضمن الجنسية المصرية حتى للمواطن المصري!
وضع القانون في مرتبة أسمي من الدستور، خلافًا لما هو بديهي من أن القانون يستنبط من الدستور، وأنه لا يجب أن يمنح الدستور الحق للمشرع بالانتقاص من الضمانات الدستورية من خلال آلية التشريع، وهو المرض الذي تعاني منه
مواد كثيرة في الدستور، وخاصة في الباب الثالث المعني بالحقوق والحريات العامة. لقد أدي ذلك التوجه في دستور ٧١ إلي جعل الضمانات الدستورية لعدد من الحقوق والحريات أضحوكة، تتلاعب بها الأغلبية الجاهزة في المجلس التشريعي.
Share this Post