واصلت الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان خلال جلسته الـ 60 التزام الصمت إزاء ضحايا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في نهج لم يُفضِ إلا إلى تغذية دوائر العنف وعدم الاستقرار والأزمات الإنسانية.
خلال هذه الجلسة، ناقش مركز القاهرة ومنظمات المجتمع المدني، أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ليبيا، سوريا، واليمن، السودان وفلسطين؛ مطالبين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتغيير المسار واتخاذ إجراءات لمواجهة الإفلات من العقاب على جرائم الفظائع المتفشية التي في المنطقة. بينما حرص ممثلي بعض الدول العربية في المقابل على عرقلة أي إجراءات لحماية الضحايا وضمان المساءلة في العديد من الحالات في المنطقة، مع استثناءات ملحوظة لحالتي السودان وفلسطين.
يقول جيريمي سميث، مدير مكتب مركز القاهرة في جنيف: «غالبًا ما يتم تهميش الدعوات إلى احترام سيادة القانون وضمان حماية ضحايا جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح الأهداف السياسية قصيرة الأجل والصفقات الاقتصادية. فإذا أراد المجتمع الدولي منطقة مستقرة ومزدهرة، فلا بد أن يبدأ في تغيير هذا النهج”.
في هذه الجلسة، قرر مجلس حقوق الإنسان تجديد ولاية بعثة تقصي الحقائق الدولية بشأن السودان. وفيما يرحب مركز القاهرة بهذا القرار المهم في ظل تصاعد المخاوف بشأن حصار الفاشر واستمرار الهجمات على المدنيين، وخصوصًا العنف الجنسي بحق النساء، يؤكد المركز وشركاؤه أن استمرار عمل البعثة يمثل تحدي لإرادة غالبية أعضاء الوفد العربي، الذين يواصلون معارضة أي جهود دولية للمساءلة عن جرائم الحرب والجرائم المحتملة ضد الإنسانية المرتكبة في السودان.
كان مركز القاهرة قد انضم لخطاب يضم مجموعة من المنظمات قبيل الجلسة للمطالبة بتجديد ولاية بعثة تقصي الحقائق في ضوء تصاعد الانتهاكات. كما شارك المركز عدد من المنظمات في تنظيم ندوة عامة على هامش فعاليات الجلسة حول الدور الحيوي للجنة التحقيق، مطالبًا المجلس بتمديد ولايتها. فضلا عن ندوة أخرى حول الفظائع المروعة التي وردت في تقرير اللجنة المقدم جلال الجلسة، مسلطا الضوء على أهمية تمكينها من مواصلة عملها في جمع الأدلة تمهيدًا للمحاسبة.
قدمت لجنة التحقيق الأممية المستقلة في الأرض الفلسطينية المحتلة تقرير قانوني مبدئي يحمل أدلة قوية تؤكد ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية في غزة. وقد دعت اللجنة جميع الدول إلى اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتنفيذ قرار محكمة العدل الدولية وضمان وقف الإبادة ومحاسبة المسئولين عنها. كما شهدت هذه الجلسة الإعلان عن تحديث قاعدة بيانات الأمم المتحدة للشركات العاملة في المستوطنات الإسرائيلية، وهي خطوة لطالما دعا إليها مركز القاهرة والمنظمات الحقوقية مطالبين الدول والجهات الفاعلة الخاصة بمقاطعة اقتصاد الاحتلال (اقتصاد الإبادة) والتوقف عن كل أشكال دعمه.
ورغم المجازر الأخيرة التي ارتُكبت بحق المجتمعات الأقليات في سوريا (في السويداء وعلى الساحل)؛ فللمرة الأولى منذ سنوات لم يصدر خلال هذه الجلسة أي قرار بتعلق سوريا، مما يثير القلق بشأن مدى تأثير الضغوط العربية على الحيلولة دون إجراءات المسائلة في سوريا، بينما لم تبادر السلطات السورية المؤقتة بأي عملية عدالة انتقالية شاملة مستدامة.
وكان مركز القاهرة قد أشار في بيانه أمام المركز إلى خطورة غياب التحقيقات الجادة حول الفظائع المرتكبة في السويداء، وأثر ذلك على فرص السلم الاجتماعي في سوريا. وفي ندوة عامة على هامش هذه الجلسة، جمعت مجموعة من المدافعين عن حقوق الإنسان وأسر من ضحايا هذه مجازر السويداء، سلط المركز وشركاؤه الضوء على الحاجة الملحة إلى العدالة والمساءلة، وأهمية أن تعطي جميع الدول الأعضاء أولوية لحماية الأقليات في سوريا وضمان مشاركة جميع السوريين في أي عملية انتقالية تقودها السلطات الانتقالية.
في اليمن، ورغم الدعوات المتكررة من المجتمع المدني، بما في ذلك خلال الجلسة الأخيرة، يستمر الوضع في التدهور، مع تزايد قمع المدنيين والصحفيين والمدافعين وعمليات التوقيف التعسفي والترهيب المرتكبة من كل الأطراف، بما في ذلك الحوثيون. كما تزامن تقاعس المجلس إزاء الوضع في اليمن مع تصاعد الأعمال العدائية، بما في ذلك ضربات إسرائيلية في صنعاء استهدفت مناطق سكنية ومبانٍ أمنية، مما أدى إلى سقوط قتلى بين المدنيين وزيادة المخاوف على المحتجزين في المعتقلات.
من جانبه، دعا مركز القاهرة في بيانه الدول إلى اتخاذ إجراء أقوى لحماية الضحايا واحترام القانون الدولي. كما نظّم مع شركائه ندوة عامة لتقييم استجابة مجلس حقوق الإنسان للأزمة المستمرة لحقوق الإنسان في اليمن، مسلطًا الضوء على استمرار الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة من جميع أطراف الصراع. وعلى الجانب الأخر، قادت السعودية والحكومة اليمنية المعترف بها في الرياض قرارًا يمنع مكتب مفوض حقوق الإنسان من تقديم تقارير عن الانتهاكات في اليمن إلى المجلس ويقوّض فعليًا حق ضحايا اليمن في الإدلاء بشهاداتهم لدى الأمم المتحدة!
بالمثل، في ليبيا، لم تُسفر سنتان من المساعدة التقنية بموجب القرار 56/16 عن أي تقدم ملموس في إنهاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو تعزيز العدالة. فبحسب بيان قدمه المركز خلال الجلسة؛ لا تزال الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري وقمع المجتمع المدني مستمر بدون رادع، بينما تواصل السلطات في شرق وغرب ليبيا تعطيل التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وحماية الجناة من المساءلة. هذه التطورات تؤكد أن المساعدة التقنية وحدها لا تكفي لمواجهة الإفلات المتجذر من العقاب، وأنه يتعين على المجلس اعتماد نهج يتمحور حول الضحايا. إن القرار المُعدّ من ليبيا، والذي اعتمده المجلس في نهاية المطاف، لا يفي بهذا المطلب، بل يتجنّب مرة أخرى موضوع انتهاكات حقوق الإنسان والحاجة الملحّة للمساءلة لصالح التعاون التقني.
بينما تتقدّم مصر بالترشح لعضوية مجلس حقوق الإنسان، ظهرت أدلة قوية تزعم تُورّط الحكومة المصرية وجيشها في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سيناء. وفي رسالة وجهتها منظمات المجتمع المدني المصرية إلى الدول الأعضاء وأخرى إلى المفوض السامي لحقوق الإنسان، دعت إلى تحقيق أممي فوري حول هذه الانتهاكات، وإلى معارضة الدول لترشح مصر لعضوية المجلس.
أطهرت الضربات الإسرائيلية الأخيرة في قطر واليمن وسوريا مرة أخرى الحاجة الملحّة إلى عمل مبدئي ومتسق. الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد المناطق المدنية والدول المجاورة تشكل خرقًا واضحًا للقانون الدولي، ومع ذلك فإن صمت المجتمع الدولي لا يعزز إلا الإفلات من العقاب ويقوّض مصداقية المجلس. وفي بيانه أمام المجلس دعا مركز القاهرة جميع الدول إلى تعليق نقل الأسلحة إلى إسرائيل، ووقف المعاملات التي تدعم الانتهاكات لحقوق الإنسان، وضمان المساءلة.
في هذه الجلسة أيضًا، شارك مركز القاهرة في رعاية وتنظيم عدد من الندوات العامة على هامش الجلسة؛ بما في ذلك ندوة حول القمع العابر للحدود وأخرى حول الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في البحرين. وأخرى عن الوضع الحقوقي في السعودية. وفي ختام الجلسة، انتقدت منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك مركز القاهرة نقص التشاور الكافي مع المجتمع المدني في خطة الأمم المتحدة 80 للأمين العام، وما تشكله المقترحات الخاصة بتقليص الميزانيات من تهديد على الركيزة الحقوقية التي تعاني منذ سنوات من نقص التمويل داخل الأمم المتحدة.

جدير بالذكر، أن الجلسة الـ 60 لمجلس حقوق الإنسان قد انطلقت من مقره في جنيف في 8 سبتمبر 2025 واستمرت حتى 8 أكتوبر الجاري.
Share this Post

