Ezequiel Scagnetti / Flickr

حتى الشعوب تصنع طغـاتهــا

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني

سنة 1576، نشر الكاتب الفرنسي اتيان دو لابوسيي Étienne de La Boétie، الذي يعتبر احد مراجع الفكر السياسي الحديث، مقالا مهما حول «العبودية المختارة»، المقال الذي تحوّل إلى كتاب ، لازالت راهنيته حول العلاقة بين استبداد الطغاة واستكانة شعوبهم تستوقفنا، فهو يرى أن الطاغية لا يكون مستبدا الا اذا تخلى الشعب عن حريته التي ولدت معه، يتنازل عنها بمحض إرادته ويسلّم بعبوديته ويسكنه الطمع الخوف والجبن، فالحرية هي اعز مايمكن للانسان ان يمتلكه ونحن مجبولون على المحافظة عليها والدفاع عنها بكل ما لنا من قوة، كما يرى ان الشعوب هي التي تصنع الطغاة طمعا وانانية وخوفا من البطش، وهي غير مدركة بأن بطش المستبدين متأت من طاعة مواطنيهم وخنوعهم وقبولهم بالتنازل عن أعزّ ما وُهبوا: الحريّة.

ولا يحكم الطاغية بمفرده، اذ لابد له من زمرة من «النخب» أولئك المتملقين الذين يتسارعون الى طاعته يهيئون له طريق الاستبداد وينطقون قبل ان يتكلّم ويسابقون إرادته ويتسابقون الى ارضاء رغباته… (هؤلاء، الذين خاطبهم الشاعر أحمد فؤاد نجم في سبعينيات القرن الماضي، بقوله:

«انتو دود الارض والافة المخيفة…
انتو ذرّة رمل في عيون الخليفة…
انتو وكرباج المظالم والماسي …
انتو علّة في جسم بلدي»)

أما عن كيفية سقوط المستبد، فيقدم الكاتب وصفة سهلة: «لا تخلعوه، فقط كفّوا عن طاعته وسترونه يسقط كتمثال ضخم ازيحت قاعدته فهوى وتحطّم». لكن الاشكال الذي لا زال الى حدّ اليوم، بعد حوالي خمسة قرون من زمن لا بويسيي هو صعوبة اقناع الشعوب بان الثمن الذي تدفعه مقابل الخنوع والاستسلام للعبودية هو اغلى بكثير من المواجهة…

إذ تتحمّل الشعوب الظلم لعقود وربما لقرون، حتى يسكنها و يضحى جزءا من حياتها وتفكيرها وكيانها، وتستكين نخبها الى المصالح الفردية والطموح الشخصي والانتهازية وتصل إلى حدّ رفض بصيص الحرية حين يطلّ، لان نور الحرية يرهق ابدانها الكسلى التي تعوّدت على النوم بالأصفاد والأغلال، تمامًا مثل شعب «امثولة الكهف» الذي صوّره بعبقرية افلاطون، أولئك الذين ابهرتهم شمس الحقيقة، ففضلوا العودة إلى ظلام كهفهم. فهل أن الشعوب مسؤولة على قهرها واستعبادها والظلم الذي يقع عليها وحولها؟

في كتاب الحداثة والهولوكوست Modernité et Holocauste، يرى الكاتب البولندي زيغمند باومان Zygmunt Bauman ان هتلر لم يكن مسؤولا وحده عن الهولوكوست اذ «لا يمكن لرجل واحد مهما أوتي من ملكات ومهما أصابه من جنون أن يرتكب تلك الجرائم التي تأنف منها مملكة الحيوان «بل انها مسؤولية كل المؤسسات الاعلامية والثقافية والنخب الفنية». ولنرجع بالذاكرة الى التاريخ: ألم يكن الكثيرون من اهل التنوير يرون في ما يقوم به القائد هتلر «رسالة حضارية» لكافة الانسانية؟ كل المجتمع الالماني اذن كان مسؤولا عن المذبحة وخاصة نخبه التي لا تستطيع ان تبرأ نفسها من دم الذين ماتوا ظلما. لكن من يستطيع محاسبة الحكام والنخب والشعوب معا؟

عبد الرحمان الكواكبي: سادية المستبد تلتقي مع مازوشية «الرعية»

تقرأ جلّ الروايات العالمية حول الاستبداد والديكتاتورية ، فتقف على جمال السرد وقبح الصورة، على بؤس الأوطان التي تتحوّل شيئا فشيئا الى سجون مظلمة و تقف على بلاهة المستبد و فياض وقاحته وتضخيمه لذاته الخاوية والسخيفة، المسكونة بالخوف الدائم، كذاك الديكتاتور الجاهل و العابر للزمن في «خريف الغضب»، أو ذاك الرئيس التافه الذي يحتقر شعبه ويمقته الى درجة اعتباره «بعوضة صماء بكماء» في رواية «السيد الرئيس» أو ذاك الديكتاتور المسكون بالخوف الدائم من شعبه في «الاخ الاكبر» في رواية 1984…

في هذه الروايات ينحت الكتاب الروائيون جمالا سرديا يعرّي كل خفايا قبح الديكتاتورية، فيتحوّل المستبد من شبه إلاه الى مسخ، خلقا وخُلقا، يخفي وراء مظهره «المتوازن» كل عيوب البشاعة والدمامة والأمراض النفسية والجسدية. لكن رغم القواسم المشتركة بين كل المستبدين في العالم، ما من أحد تناول الاستبداد في العالم الشرقي كما فعل ذلك عبد الرحمان الكواكبي في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، ذلك لأنه لم يعايشه بخياله وفكره وادبه، بل اكتوى بناره بين المنفى و المضايقات والترحال القسري، عايش تقرّب رجال الدين من الطغاة واستعمال هؤلاء للدين لتبرير طغيانهم، فخرج بنتيجة مفادها ان «الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني» وان بداية الخلاص يبدأ بفك الارتباط بينهما، حتى تنزع القداسة عن المستبد، كما عاين وقاحة المستبدين الذين يحكمون بغرائزهم، اي «بمقتضى الهوى» لا بمقتضى الحكمة».

ويصل الصلف بالمستبد الى حد احتقار لشعبه، فلا يقبل بغير الطاعة والتذلل والوفاء فهو يود «أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شرست ولكن الملفت هو سرعة استجابة الشعوب لمن يسلبها حريتها ويذلها ويستعبدها.
«فالعوام قوة المستبد وقوته، يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه على حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون عنه أنه كريم؛ وإذا قتل منهم لم يمثِل يعتبرونه رحيمًا؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه»…

الشعبوية :ديكتاتورية الجماهير

منذ سنوات ، ومع صعود قيادات شعبوية في اوروبا وامريكا، تعددت الكتابات حول الموضوع ومخاطر صعود قيادات نكرة تتمرد على المؤسسات الديمقراطية والديمقراطية التمثيلية، وتقدم خطابا عاطفيا يجد صدى لدى عامة الجماهير الساخطة على النخب السياسية… وكثيرا ما يقع اللوم على هذه المؤسسات والهياكل الديمقراطية غير القادرة على تلبية تطلعات الشعوب في الحوكمة والعدالة في واقع عولمة ليبرالية متوحشة تعمّق من التفاوت الاجتماعي وسوء الحوكمة ورداءة الخدمات وتقليص الدور الاجتماعي للدولة… وتعتبر قليلة التحاليل التي تحدثت عن ديكتاتورية «الشعب» ، هذه الحشود التي تعتبر حطب وقود الحكم الفردي والمحرّك الرئيسي لنزواته السلطوية، اولئك الذين ، مهما كان عددهم، يعتبرون انفسهم «صوت الشعب» و»ضميره الحي» ويتداولون خطب التخوين والتحقير والتهديد لكل معارضيهم، هؤلاء هم من يفتح باب الديكتاتورية على مصراعيه، وباسم الشعب …


المصدر: جريدة المغرب

Share this Post